צילום: ISM Palestine, מתוך פליקר
Below are share buttons

اخرُج وتعلّم: تأملات في إمكانية بقاء مستوطنين في الدولة الفلسطينية

عدد 10,

منذ ما يزيد عن عقد من الزمن، يتزايد باستمرار عدد الذين يعلنون “موت حل الدولتين”. يستند هذا الإعلان، إلى حد كبير، إلى فرضيتين راسختين فيما يتعلق بمسألة المستوطنات. الأولى هي أن إنشاء دولة فلسطينية يستلزم إخلاء جميع المستوطنين الموجودين داخل حدودها الموعودة. كانت هذه الفرضية بمثابة مبدأ متفق عليه بين الطرفين في جميع الجولات التفاوضية منذ كامب ديفيد (2000)، وإن يكن لأسباب ودوافع مختلفة، بل متناقضة. الفرضية الثانية، المتشابكة مع الأولى، هي أنه ليست هنالك إمكانية سياسية لإخلاء قسري للمستوطنات التي ستبقى في المناطق الفلسطينية، ولو حتى ضمن سيناريو تبادل الأراضي وفق ما تقترحه مبادرة جنيف، وهو التبادل الذي سيبقى في هذه المناطق في أعقابه نحو مائتي ألف مستوطن “فقط”. 

في مواجهة هذا التحدي، وضعت حركة “بلاد للجميع” صيغة خاصة بها لحل الدولتين. تقوم هذه الصيغة على الاعتراف بالرابطة الوثيقة والعميقة التي تربط كلا الشعبين لجميع أجزاء الوطن، والتي تُشتق منها الرؤية بشأن حرية الحركة والتنقل وحرية السكن لجميع سكان الدولتين المستقبليتين في جميع أنحاء أرض إسرائيل ـ فلسطين. ضمن رؤية بلاد للجميع، سوف تنتفي الحاجة، في معظم الحالات، إلى إخلاء المستوطنين بصورة قسرية، لأن أولئك الذين سيختارون ذلك سيُسمح لهم بالبقاء في الدولة الفلسطينية، تبعاً لتسوية متفق عليها في كل ما يتصل بحقوق الملكية على الأراضي التي سيقيمون فوقها.  

على الرغم من ذلك، يصطدم نهج المشاركة بين إسرائيل وفلسطين بمجموعة كبيرة من الحجج المضادة التي يستخدمها أنصار حل الدولتين، وهي حجج بالإمكان تصنيفها إلى ثلاثة أنواع: الحجة القانونية ـ الأخلاقية تقول إنه بما أن المستوطنات غير قانونية وتشكل انتهاكاً دائماً لحقوق الإنسان للفلسطينيين، فلا بد إذاً من تفكيكها وإعادة المستوطنين إلى ديارهم؛ بموجب الحجة العملية، التي تتلخص في عبارة “هنا ليس السويد”، فحيال العلاقات القابلة للانفجار بين الفلسطينيين والمستوطنين، فإن التسوية المُقترَحة غير قابلة للتطبيق وهي محكومة، مسبقاً، بالتدهور في نهاية المطاف إلى العنف وانهيار اتفاقية السلام برمّتها؛ وتقول الحجة الحتمية إن تاريخ النصف الثاني من القرن العشرين يثبت أن سيرورات تفكيك وإنهاء الاستعمار تنطوي، بصورة حتمية، على إخلاء المستوطنين كلياً أو التخلي عنهم.  

استناداً إلى منظور تاريخي دولي واسع، أودّ الادعاء بأن الحجج الثلاث كلها خاطئة. غالباً ما يرتبط مفهوم إنهاء الاستعمار بتفكك الإمبراطوريات الأوروبية في ما وراء البحار في أعقاب الحرب العالمية الثانية. الحجة الحتمية محقّة في القول إنه حيثما كان في المشروع الاستعماري مركِّب استيطاني، أدى سقوط الإمبراطورية إلى التخلي عن المستوطنين أو إخلائهم بالكامل. هذا ما حصل، على سبيل المثال، في الجزائر وكينيا وأنغولا وليبيا وإندونيسيا. لكنّ ظاهرة الاستعمار الاستيطاني لم تظهر مع ظهور الإمبراطوريات الأوروبية في ما وراء البحار ولم تزُل مع زوالها. فالاستعمار الاستيطاني، أي استيلاء كيان سياسي على منطقة، بوسائل مختلفة من بينها توطين سكان موالين له فيها من خلال إقصاء السكان الأصليين، هو ظاهرة معروفة منذ فجر التاريخ. وهذه الظاهرة تميز، أيضاً، عمليات التوسع في مناطق ذات تواصل إقليمي ـ مناطق “متاخمة حدّيّاً” للكيان الاستعماري ـ كما هو حال إسرائيل في الضفة الغربية. 

بعض هذه الأماكن حظي بإنهاء الاستعمار بإنشاء دولة مستقلة أو بحكم ذاتي واسع، نسبياً. مع ذلك، في المناطق المتاخمة حدّيّاً للكيان الاستعماري، خلافاً لمستعمَرات ما وراء البحار المذكورة أعلاه، بقي العديد من المستوطنين وذريتهم، بل معظمهم في بعض الأحيان، يقيمون فيها حتى بعد انتهاء الاستعمار. هذا ما حصل، على سبيل المثال، مع المستوطنين الروس في معظم دول الاتحاد السوفييتي السابق، والإنجليز في إيرلندا وإيرلندا الشمالية، الصرب في كوسوفو، الإيطاليين في جنوب تيرول (مقاطعة بولسانو)، العرب السنّة في كردستان العراقية، الأفريكان البيض في ناميبيا وغيرهم. 

ومن المهم التوضيح: كما في مستعمرات ما وراء البحار، كذلك أيضاً في “المستعمرات” المتاخمة حدّيّاً، كان المستوطنون يختلفون عن السكان الأصليين باللغة، بالثقافة وبالدين، وغالباً ما كانوا يعيشون حياتهم منفصلين عن بعضهم البعض. وفي كلتا الحالتين، اتسمت الأنظمة الاستعمارية بمزيج ما من التمييز، السلب، الإقصاء ضد السكان الأصليين أو حتى تصفيتهم الجسدية جرّاء مقاومتهم القمع والاضطهاد، مقاومة عنيفة في الغالب. مفهوم ضمناً أن الترسبات والكراهية التي خلّفتها هذه الممارسات لم تتلاشَ ولم تزُل بعد استيلاء السكان الأصليين على الحكم؛ بكلمات أخرى، أي من هذه الأماكن هو “ليس السويد”. ورغم ذلك، نشأت في معظم الحالات ظروف أتاحت بقاء المستوطنين في نطاق الكيان السياسي الجديد كما أتاحت تبلور أنماط من التعايش المشترك بين الجماعات المختلفة. فكيف حصل ذلك؟ 

فيما يلي ثلاثة اتجاهات للتفكير، باختصار شديد. أولاً، تبيّن التجارب المتراكمة أنه كلما كانت المسافة الفاصلة بين الدولة الجديدة والدولة الأم، الحاكمة سابقاً، أقصر والمعابر الحدودية بينهما أكثر انفتاحاً، قلّ حجم الضرر الذي يُلحقه تبادل السلطة بنمط حياة المستوطنين. هذه العلاقات الحيزيّة تشكل قاعدة مريحة لحفظ وتعزيز العلاقات الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية والسياسية بين هذه المجموعة السكانية ودولتها الأم. وعلاوة على ذلك، فقد تبلورت في بعض الحالات “ترتيبات عابرة للحدود” تقوم الدولة الأم في إطارها بتقديم الخدمات والدعم لأبناء شعبها في ما وراء الحدود، تمكّنهم من الحصول على الجنسية أو استصدار جوازات سفر دون الحاجة إلى إقامة، كما تقيم علاقات تجارية تفضيلية مع الدولة الجديدة. وسواء كانت هذه الترتيبات مُثبّتة في اتفاقية سلام، كما حصل في إيرلندا الشمالية، أم مثبّتة في اتفاقيات مرحلية مُختلَف عليها كما حصل في كوسوفو، فإنها تساهم في تأقلم المستوطنين مع الواقع الجديد وفيه. 

ثانياً، حاولت الأنظمة الجديدة، بطبيعة الحال، إلغاء الممارسات الاستعمارية والامتيازات التي كانت مُعتمَدة قبلها. وبقدر ما تكللت تلك المحاولات بالنجاح، فقد أدى ذلك إلى تفكيك المستوطنات، ليس من خلال طرد المستوطنين جسدياً، كما يُطالب خطأً مؤيدو الحجة القانونية ـ الأخلاقية، بل من خلال وقف انتهاكهم لحقوق السكان الأصليين وتحويل المستوطن إلى مواطن. وإلى جانب ذلك، فقد تبنى عدد من الأنظمة ترتيبات سياسية ضمنت تمثيل المستوطنين في مؤسسات الدولة ومنحتهم درجات مختلفة من الحكم الذاتي، المكانيّ أو الثقافي. من وجهة نظر النخب الأصلانية، كان هذا السخاء تجاه الأعداء السابقين بمثابة الثمن الذي كانوا مضطرين إلى دفعه من أجل تسريع وتعزيز بناء الدولة والحصول على اعتراف المؤسسات الدولية بها والفوز بعضويتها. 

وفي كثير من الحالات، شكّل تهديد الدولة الأم بالتدخل العسكري، الذي يزيد القرب الجغرافي من حدّته، محفزاً إضافياً آخر لتلك النخب لتبنّي مثل هذه الترتيبات ثم المحافظة عليها والالتزام بها. وإذا ما صدّقنا رواية نظام بوتين، فإن غزوه لأوكرانيا في العام 2022 كان نموذجاً لتنفيذ التهديد بالتدخل العسكري حيال الاضطهاد المستمر لأبناء الشعب الروسي على الجانب الآخر من الحدود. ورغم أن هذه الرواية كاذبة، على الأرجح، إلا أن سياسة أكثر تعقّلاً من جانب نظام كييف تجاه الأقلية الروسية خلال السنوات التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية في شرق الدولة في العام 2014 كان من شأنها توجيه الوضع نحو مسارات أخرى. وعلى أي حال، هذه مجرد تذكِرة مؤلمة بأن ليست هنالك حتمية. 

ثالثاً، امتناع الأنظمة الجديدة عن الإضرار بصورة شاملة بممتلكات المستوطنين الاقتصادية ـ وخصوصاً الأراضي والمباني ـ حتى لو كان قد تم شراؤها بطرق ووسائل غير مشروعة في حينه، كان عاملاً مساعداً هاماً ساهم في بقاء المستوطنين ضمن الكيان السياسي الجديد. أما الأماكن التي استُخدمت فيها آليات لاسترجاع الممتلكات بعد تأسيس الدولة الجديدة، فقد اعتُمدت فيها توازنات بيت حقوق أصحابها الأصليين (الأصلانيين) وحقوق المالكين الحاليين (المستوطنين). فقد عرضت إستونيا، على سبيل المثال، عدة بدائل عن إخلاء المستوطنين الروس بشكل قسري من المباني السكنية التي كانت معدّة للاسترجاع، بما فيها بيعها أو تأجيرها بوساطة الدولة، إضافة إلى تقديم المساعدة لأولئك الذين أُجبِروا، رغم ذلك، على الإخلاء. أما ناميبيا، من جانبها، فلم تفرض، إطلاقاً تقريباً، إعادة الأراضي التي كان البيض قد استولى عليها إلى أصحابها التاريخيين، بل شجعت، بدلاً من ذلك، بيع هذه الأراضي للدولة بصورة طوعية اختيارية وإعادة تخصيصها من جديد في إطار الإصلاح الزراعي.

غني عن القول إن الصيغة التي تقترحها حركة “بلاد للجميع” لحل مشكلة المستوطنات ليست حلاً سحرياً وإنها، في حد ذاتها، لا تقرّب إنهاء الاستعمار وإحلال السلام. فهاتان الغايتان منوطتان، أولاً وقبل أي شيء آخر، بمدى استعداد الجمهور اليهودي في إسرائيل لدفع الثمن المطلوب، وهو ما يبدو اليوم بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى. غير أن القدرة على تصوّر السلام المأمول بأكبر قدر من الملموسية، سوية مع استخلاص العبر من الخبرات المكتسبة في أماكن أخرى، هي أمر حيوي لتحفيز وإطلاق نشاط سياسي يرمي إلى تحقيق التغيير. ومثل مقالات أخرى في هذا العدد، فإن هذه المقالة أيضاً هي بمثابة نداء لصياغة أجندة بحثية واسعة الآفاق تفضي إلى تعزيز القدرة على تخيّل سيناريوهات مستقبلية ممكنة للوطن المشترك ولمشكلة المستوطنات. في هذا النداء يتردد صدى نداء آخر تتضمنه نصوص تُتلى في عيد الفصح العبري يُقارن ما بين نوايا فرعون ونوايا لابان الآرامي (بن بيتويل) تجاه عائلة يعقوب الموسعة، التي استقرت بينهما ـ اخرُج وتعلّم!

يحزقيل لاين

מִנְבַּר

منذ ما يزيد عن عقد من الزمن، يتزايد باستمرار عدد الذين يعلنون “موت حل الدولتين”. يستند هذا الإعلان، إلى حد كبير، إلى فرضيتين راسختين فيما يتعلق بمسألة المستوطنات. الأولى هي أن إنشاء دولة فلسطينية يستلزم إخلاء جميع المستوطنين الموجودين داخل حدودها الموعودة. كانت هذه الفرضية بمثابة مبدأ متفق عليه بين الطرفين في جميع الجولات التفاوضية منذ كامب ديفيد (2000)، وإن يكن لأسباب ودوافع مختلفة، بل متناقضة. الفرضية الثانية، المتشابكة مع الأولى، هي أنه ليست هنالك إمكانية سياسية لإخلاء قسري للمستوطنات التي ستبقى في المناطق الفلسطينية، ولو حتى ضمن سيناريو تبادل الأراضي وفق ما تقترحه مبادرة جنيف، وهو التبادل الذي سيبقى في هذه المناطق في أعقابه نحو مائتي ألف مستوطن “فقط”. 

في مواجهة هذا التحدي، وضعت حركة “بلاد للجميع” صيغة خاصة بها لحل الدولتين. تقوم هذه الصيغة على الاعتراف بالرابطة الوثيقة والعميقة التي تربط كلا الشعبين لجميع أجزاء الوطن، والتي تُشتق منها الرؤية بشأن حرية الحركة والتنقل وحرية السكن لجميع سكان الدولتين المستقبليتين في جميع أنحاء أرض إسرائيل ـ فلسطين. ضمن رؤية بلاد للجميع، سوف تنتفي الحاجة، في معظم الحالات، إلى إخلاء المستوطنين بصورة قسرية، لأن أولئك الذين سيختارون ذلك سيُسمح لهم بالبقاء في الدولة الفلسطينية، تبعاً لتسوية متفق عليها في كل ما يتصل بحقوق الملكية على الأراضي التي سيقيمون فوقها.  

على الرغم من ذلك، يصطدم نهج المشاركة بين إسرائيل وفلسطين بمجموعة كبيرة من الحجج المضادة التي يستخدمها أنصار حل الدولتين، وهي حجج بالإمكان تصنيفها إلى ثلاثة أنواع: الحجة القانونية ـ الأخلاقية تقول إنه بما أن المستوطنات غير قانونية وتشكل انتهاكاً دائماً لحقوق الإنسان للفلسطينيين، فلا بد إذاً من تفكيكها وإعادة المستوطنين إلى ديارهم؛ بموجب الحجة العملية، التي تتلخص في عبارة “هنا ليس السويد”، فحيال العلاقات القابلة للانفجار بين الفلسطينيين والمستوطنين، فإن التسوية المُقترَحة غير قابلة للتطبيق وهي محكومة، مسبقاً، بالتدهور في نهاية المطاف إلى العنف وانهيار اتفاقية السلام برمّتها؛ وتقول الحجة الحتمية إن تاريخ النصف الثاني من القرن العشرين يثبت أن سيرورات تفكيك وإنهاء الاستعمار تنطوي، بصورة حتمية، على إخلاء المستوطنين كلياً أو التخلي عنهم.  

استناداً إلى منظور تاريخي دولي واسع، أودّ الادعاء بأن الحجج الثلاث كلها خاطئة. غالباً ما يرتبط مفهوم إنهاء الاستعمار بتفكك الإمبراطوريات الأوروبية في ما وراء البحار في أعقاب الحرب العالمية الثانية. الحجة الحتمية محقّة في القول إنه حيثما كان في المشروع الاستعماري مركِّب استيطاني، أدى سقوط الإمبراطورية إلى التخلي عن المستوطنين أو إخلائهم بالكامل. هذا ما حصل، على سبيل المثال، في الجزائر وكينيا وأنغولا وليبيا وإندونيسيا. لكنّ ظاهرة الاستعمار الاستيطاني لم تظهر مع ظهور الإمبراطوريات الأوروبية في ما وراء البحار ولم تزُل مع زوالها. فالاستعمار الاستيطاني، أي استيلاء كيان سياسي على منطقة، بوسائل مختلفة من بينها توطين سكان موالين له فيها من خلال إقصاء السكان الأصليين، هو ظاهرة معروفة منذ فجر التاريخ. وهذه الظاهرة تميز، أيضاً، عمليات التوسع في مناطق ذات تواصل إقليمي ـ مناطق “متاخمة حدّيّاً” للكيان الاستعماري ـ كما هو حال إسرائيل في الضفة الغربية. 

بعض هذه الأماكن حظي بإنهاء الاستعمار بإنشاء دولة مستقلة أو بحكم ذاتي واسع، نسبياً. مع ذلك، في المناطق المتاخمة حدّيّاً للكيان الاستعماري، خلافاً لمستعمَرات ما وراء البحار المذكورة أعلاه، بقي العديد من المستوطنين وذريتهم، بل معظمهم في بعض الأحيان، يقيمون فيها حتى بعد انتهاء الاستعمار. هذا ما حصل، على سبيل المثال، مع المستوطنين الروس في معظم دول الاتحاد السوفييتي السابق، والإنجليز في إيرلندا وإيرلندا الشمالية، الصرب في كوسوفو، الإيطاليين في جنوب تيرول (مقاطعة بولسانو)، العرب السنّة في كردستان العراقية، الأفريكان البيض في ناميبيا وغيرهم. 

ومن المهم التوضيح: كما في مستعمرات ما وراء البحار، كذلك أيضاً في “المستعمرات” المتاخمة حدّيّاً، كان المستوطنون يختلفون عن السكان الأصليين باللغة، بالثقافة وبالدين، وغالباً ما كانوا يعيشون حياتهم منفصلين عن بعضهم البعض. وفي كلتا الحالتين، اتسمت الأنظمة الاستعمارية بمزيج ما من التمييز، السلب، الإقصاء ضد السكان الأصليين أو حتى تصفيتهم الجسدية جرّاء مقاومتهم القمع والاضطهاد، مقاومة عنيفة في الغالب. مفهوم ضمناً أن الترسبات والكراهية التي خلّفتها هذه الممارسات لم تتلاشَ ولم تزُل بعد استيلاء السكان الأصليين على الحكم؛ بكلمات أخرى، أي من هذه الأماكن هو “ليس السويد”. ورغم ذلك، نشأت في معظم الحالات ظروف أتاحت بقاء المستوطنين في نطاق الكيان السياسي الجديد كما أتاحت تبلور أنماط من التعايش المشترك بين الجماعات المختلفة. فكيف حصل ذلك؟ 

فيما يلي ثلاثة اتجاهات للتفكير، باختصار شديد. أولاً، تبيّن التجارب المتراكمة أنه كلما كانت المسافة الفاصلة بين الدولة الجديدة والدولة الأم، الحاكمة سابقاً، أقصر والمعابر الحدودية بينهما أكثر انفتاحاً، قلّ حجم الضرر الذي يُلحقه تبادل السلطة بنمط حياة المستوطنين. هذه العلاقات الحيزيّة تشكل قاعدة مريحة لحفظ وتعزيز العلاقات الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية والسياسية بين هذه المجموعة السكانية ودولتها الأم. وعلاوة على ذلك، فقد تبلورت في بعض الحالات “ترتيبات عابرة للحدود” تقوم الدولة الأم في إطارها بتقديم الخدمات والدعم لأبناء شعبها في ما وراء الحدود، تمكّنهم من الحصول على الجنسية أو استصدار جوازات سفر دون الحاجة إلى إقامة، كما تقيم علاقات تجارية تفضيلية مع الدولة الجديدة. وسواء كانت هذه الترتيبات مُثبّتة في اتفاقية سلام، كما حصل في إيرلندا الشمالية، أم مثبّتة في اتفاقيات مرحلية مُختلَف عليها كما حصل في كوسوفو، فإنها تساهم في تأقلم المستوطنين مع الواقع الجديد وفيه. 

ثانياً، حاولت الأنظمة الجديدة، بطبيعة الحال، إلغاء الممارسات الاستعمارية والامتيازات التي كانت مُعتمَدة قبلها. وبقدر ما تكللت تلك المحاولات بالنجاح، فقد أدى ذلك إلى تفكيك المستوطنات، ليس من خلال طرد المستوطنين جسدياً، كما يُطالب خطأً مؤيدو الحجة القانونية ـ الأخلاقية، بل من خلال وقف انتهاكهم لحقوق السكان الأصليين وتحويل المستوطن إلى مواطن. وإلى جانب ذلك، فقد تبنى عدد من الأنظمة ترتيبات سياسية ضمنت تمثيل المستوطنين في مؤسسات الدولة ومنحتهم درجات مختلفة من الحكم الذاتي، المكانيّ أو الثقافي. من وجهة نظر النخب الأصلانية، كان هذا السخاء تجاه الأعداء السابقين بمثابة الثمن الذي كانوا مضطرين إلى دفعه من أجل تسريع وتعزيز بناء الدولة والحصول على اعتراف المؤسسات الدولية بها والفوز بعضويتها. 

وفي كثير من الحالات، شكّل تهديد الدولة الأم بالتدخل العسكري، الذي يزيد القرب الجغرافي من حدّته، محفزاً إضافياً آخر لتلك النخب لتبنّي مثل هذه الترتيبات ثم المحافظة عليها والالتزام بها. وإذا ما صدّقنا رواية نظام بوتين، فإن غزوه لأوكرانيا في العام 2022 كان نموذجاً لتنفيذ التهديد بالتدخل العسكري حيال الاضطهاد المستمر لأبناء الشعب الروسي على الجانب الآخر من الحدود. ورغم أن هذه الرواية كاذبة، على الأرجح، إلا أن سياسة أكثر تعقّلاً من جانب نظام كييف تجاه الأقلية الروسية خلال السنوات التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية في شرق الدولة في العام 2014 كان من شأنها توجيه الوضع نحو مسارات أخرى. وعلى أي حال، هذه مجرد تذكِرة مؤلمة بأن ليست هنالك حتمية. 

ثالثاً، امتناع الأنظمة الجديدة عن الإضرار بصورة شاملة بممتلكات المستوطنين الاقتصادية ـ وخصوصاً الأراضي والمباني ـ حتى لو كان قد تم شراؤها بطرق ووسائل غير مشروعة في حينه، كان عاملاً مساعداً هاماً ساهم في بقاء المستوطنين ضمن الكيان السياسي الجديد. أما الأماكن التي استُخدمت فيها آليات لاسترجاع الممتلكات بعد تأسيس الدولة الجديدة، فقد اعتُمدت فيها توازنات بيت حقوق أصحابها الأصليين (الأصلانيين) وحقوق المالكين الحاليين (المستوطنين). فقد عرضت إستونيا، على سبيل المثال، عدة بدائل عن إخلاء المستوطنين الروس بشكل قسري من المباني السكنية التي كانت معدّة للاسترجاع، بما فيها بيعها أو تأجيرها بوساطة الدولة، إضافة إلى تقديم المساعدة لأولئك الذين أُجبِروا، رغم ذلك، على الإخلاء. أما ناميبيا، من جانبها، فلم تفرض، إطلاقاً تقريباً، إعادة الأراضي التي كان البيض قد استولى عليها إلى أصحابها التاريخيين، بل شجعت، بدلاً من ذلك، بيع هذه الأراضي للدولة بصورة طوعية اختيارية وإعادة تخصيصها من جديد في إطار الإصلاح الزراعي.

غني عن القول إن الصيغة التي تقترحها حركة “بلاد للجميع” لحل مشكلة المستوطنات ليست حلاً سحرياً وإنها، في حد ذاتها، لا تقرّب إنهاء الاستعمار وإحلال السلام. فهاتان الغايتان منوطتان، أولاً وقبل أي شيء آخر، بمدى استعداد الجمهور اليهودي في إسرائيل لدفع الثمن المطلوب، وهو ما يبدو اليوم بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى. غير أن القدرة على تصوّر السلام المأمول بأكبر قدر من الملموسية، سوية مع استخلاص العبر من الخبرات المكتسبة في أماكن أخرى، هي أمر حيوي لتحفيز وإطلاق نشاط سياسي يرمي إلى تحقيق التغيير. ومثل مقالات أخرى في هذا العدد، فإن هذه المقالة أيضاً هي بمثابة نداء لصياغة أجندة بحثية واسعة الآفاق تفضي إلى تعزيز القدرة على تخيّل سيناريوهات مستقبلية ممكنة للوطن المشترك ولمشكلة المستوطنات. في هذا النداء يتردد صدى نداء آخر تتضمنه نصوص تُتلى في عيد الفصح العبري يُقارن ما بين نوايا فرعون ونوايا لابان الآرامي (بن بيتويل) تجاه عائلة يعقوب الموسعة، التي استقرت بينهما ـ اخرُج وتعلّم!

Below are share buttons

גליונות אחרונים

לכל הגליונות