טל בן צבי
Below are share buttons

نقطة ارتكاز: فنّانون عرب وفنّ فلسطينيّ في مَعارض “عيد الأعياد”، وادي النسناس، حيفا

عدد 06,

مهرجان “عيد الأعياد”، الذي يقام في شهر كانون الأوّل من كلّ عام في حيّ وادي النسناس في حيفا، بدأ مشواره في شهر كانون الأوّل من العام 1993، ويومها احتفلت الديانات الثلاث في الوقت ذاته تقريبًا بعيد الحانوكا وعيد الميلاد وحلول شهر رمضان. هذا المهرجان الذي بادر إليه بيت الكرمة- المركز الثقافيّ العربيّ اليهوديّ، بالتعاون مع بلدية حيفا، “يهدف إلى تشجيع وتعزيز التسامح والتقبّل والاحترام المتبادل من خلال الفنّ والثقافة”.[1] الحدث المركزيّ في هذا المهرجان هو معرض فنّيّ يعرض فيه فنّانون مختلف أعمالهم ولوحاتهم. المعرض الأوّل لمهرجان “عيد الأعياد” امتدّ من فضاءات العرض التابعة لبيت الكرمة حتّى الأدراج الحجريّة التي تُفضي إلى الوادي، وعلى امتداد الشوارع المحيطة بالحيّ. في العام 1996، عُيّنت حنّه كوفلير أمينة للمعرض، وواصلت عملها هذا لعقد من الزمن، حتّى العام 2006 بالتحديد؛ يرافق المعرضَ في كلّ عام إصدارُ كتالوج يحتوي على نصوص تأويليّة شاملة باللغات العربيّة والعبريّة والإنجليزيّة .[2] هذا التقليد يتواصل حتّى يومنا هذا، حيث تمكّن على امتداد 22 عامًا من خلق فضاء متحفيّ بحضورٍ لافت للغاية.

برز حضور الفنّانين العرب بدءًا من المعرض الأوّل الذي قامت كوفلير على أمانته، حيث عُرضت حينذاك أعمال لعبد عابدي، وإبراهيم نوباني، وحسن خاطر، ورنا بشارة، وجمال حسن، وجمانة إميل عبود، وأسد عزّي، وعامر درباس، وأحمد كنعان.[3] في سنوات التسعين، لم يحصل أنْ عُرِض هذا الكمّ الكبير من أعمال الفنّانين العرب خرّيجي مدارس الفنون في إسرائيل، ملحقة بنصوص باللغة العربيّة، في فضاء يوصف على نحو طبيعيّ بأنّه فضاء مجتمعيّ عربيّ.

في كتالوج المعرض الأوّل الذي قامت كوفلير على أمانته “لُحمة وسَدى” (1996) جاءت افتتاحيّتها على النحو التالي:

“الاختلاط الفنّيّ في مشروع وادي النسناس ناجم عن الطابع الرئيسيّ للمكان، على ما فيه من نسيج بشريّ ومركّبات مدنيّة، وكذلك عن المسألة الاجتماعيّة التي يهتمّ فيها “بيت الكرمة” الملتصق به كمركز ثقافيّ يهوديّ – عربيّ. لقاء الفنّ، المؤلّف من أسس عديدة مادّيّة وروحانيّة، يمكّن الفنّانين المشتركين فيه من نصب إبداعاتهم في إطار مفتوح يجسّد بالملموس إزالة السدود بين ما يُعتبر فنًّا نخبويًّا وبين الفنّ الشعبيّ، بين المقولة الثقافيّة وبين التعبير الفنّيّ الإثنيّ، بين الموادّ الأصليّة وبين الموادّ “الفقيرة”، بين المركز والأطراف، وبين المفاهيم “الراهنة” والمفاهيم التقليديّة، بغية خلق نقاط التقاء تتواصل في عين المُشاهد مع مخزون متنوّع الألوان من غير اللُّحمة فيه لا يكون للسَّدى موطئ قدم”.[4]

الوادي بذاته كان نقطة ارتكاز المعرض، وبعض الأعمال كانت site specific، أي إنّها أُنتجت خصّيصًا للمعرض، وجرى تصميمها كي توضع في الوادي. هكذا على سبيل المثال كتبت كوفلير حول الفنّانة رنا بشارة، خرّيجة دائرة الفنون في جامعة حيفا والتي تسكن في قرية ترشيحا:

“أثمرت هذه المرّة نحتًا بيئيًّا خُطّط خصّيصًا لبؤرة عينيّة في الوادي. “صرخة الوادي” لرنا هي مقولة اجتماعيّة سياسيّة تتطرّق إلى أحياء مثل وادي النسناس أو وادي الصليب جرى فيها هدم وإغلاق بيوت على مدار السنين، كما في أحياء أخرى في حيفا جرت فيها في الماضي تنمية وتطوير المجد الهندسيّ المعماريّ العربيّ. احتجاج رنا ينفجر من حائط منفرد وبقايا منزل عتيق تعرّض للهدم، ويمكن أن نشخّص فيه طبقات اللون المقشورة. الجدار كلّه مغطّى بمادّة جاهزة عضويّة – أوراق صبّار لحميّة كما لو أنّها “خيطت” عليه كزينة أو سياج حيّ حسبما هو متّبَع في القرى العربيّة. وبين أوراق الصبّار (التي أصبحت رمزًا للقرية العربيّة) أدخلت شظايا البلاط المرسومة التي بقيت في المنطقة، شهادة غاضبة على بيت كان هناك مرّة وعلى جلبة الحياة التي سكنته”.[5]

يعرض نصّ كوفلير الأغراض التي تتكوّن منها الأيقونوغرافيا الفلسطينيّة: شواهد قبور، وبيوت مدمّرة، وبلاطات مزركشة، وشجرة صبّار، وأشجار زيتون. الفنّان الحيفاويّ عبد عابدي الذي عرض أعمالًا له في معرض العام 1996 ربط في مقابلة أجريت معه بين “نقطة تشبّث” الوادي وواقع الحال الفلسطينيّ:

كعضو في لجنة التوجيه لإعادة ترميم الوادي التابعة لوزارة البناء والإسكان، أنا متداخل تمامًا بالمحيط، وأخاف من اليوم الذي ستداهم فيه البولدوزرات المكان الذي كبرت وترعرعت فيه، وتبقيه عينًا بعد أثر. هذا المكان يجسّد واقعًا معيشيًّا يعبّر عنا. للأسف الشديد ثمّة أمثلة كثيرة لأحياء -وقرى كذلك- جرى تدميرها بالكامل لأسباب سياسيّة بعد العام 1948، وتدمير غير مبرّر في حيفا حتّى في العَقد الأخير، وأقصد التدمير الحاصل في حيّ وادي الصليب.[6]

ضمّ المعرض المذكور عملًا فنّيًّا آخر تناول البيت الفلسطينيّ وهو عمل تنصيبيّ للفنّانة جُمانة إميل عبّود والذي ضمّ صورًا وتدوينات وأغراض مختلفة. ووصفت كوفلير هذا العمل التنصيبيّ على النحو التالي: “جمانة، التي عادت إلى مدينة طفولتها شفاعمرو بعد إقامة طويلة في كندا، تكتشف مجدّدًا سحر النسويّة في البيت الشرقيّ وتتواصل معها بواسطة موتيفات تزيينيّة ومقاطع ذكريات. إنّها تستعمل مناظر الطفولة، وقطعًا زخرفيّة ذات طابع محلّيّ […]”.[7]

البيت في شفاعمرو يعرّف في هذا النصّ كبيت شرقيّ ذي طابع محلّيّ. بعد ذلك بعامين، شكّلت هذه الاستعارات والبيت في شفاعمرو محورَ معرض قمتُ على أمانته في غاليري هاينريخ بيل. في نصّ المعرض كتبتُ أنّ جمانة إميل عبود تتعامل مع هذه الصور والاستعارات كوطن ضائع، وهي تمكّننا من التعرّف عن كثب على الثقافة الفلسطينيّة. [8]

في تسعينيّات القرن العشرين طرأ تغيير على الخطاب الذي يتناول أعمال الفنّانين العرب، وانصبّ في الأساس على التحوّل نحو خطاب تأويليّ فلسطينيّ. أحد الأمثلة البارزة على ذلك يظهر في معرض آخر لـِ “عيد الأعياد”، براءة 2000 الذي قامت على أمانته كوفلير في العام 1999، وعرض فيه أحمد كنعان عمله الفنّيّ “الحاضر الغائب” (تقنيّات مختلطة، 1988). وقد وصفت الصحفيّة هيلا شكولنيك العمل على النحو التالي:

بيت أحمد كنعان هو قفص على حافة الهاوية ربطت فيه مفاتيح كبيرة، وفي ذلك تتحقّق ثنائيّة: السجن من ناحية، وإمكانية دخول كلّ من يرغب في ذلك من ناحية أخرى. هذا البيت، على الرغم من حطام البلاط الشرقيّ المزركش، هو بيت لا يتبع لأحد، بيت مهجور، وبيت جرى اقتحامه، وسكّانه هجروه أو هُجّروا منه، ولا أحد يريده. [9]

ألحق كنعان بعمله هذا مقطوعة من قصيدة لمحمود درويش تلخّص التعامل القيميّ مع البيت:

…هُنا فِي المساءِ الأخيرْ

نَتَمَلّى الْجبالَ المُحيطَةَ بِالْغَيْم: فتحٌ … وَفَتْحٌ مُضادّ

وَزَمانٌ قَديمٌ يُسَلِّمُ هذا الزّمانَ الْجَديدَ مَفاتيح أَبْوابِنا

فادْخلوا، أيَّها الْفاتِحونَ، مَنازِلَنا واشْرَبوا خَمْرَنا […]

شايُنا أَخَضْر ساخِنٌ فاشْرَبوهُ، وَفُسْتُقنُا طازَجٌ فَكُلوه

والأسرَّةُ خضراءُ من خَشَب الأرْزِ، فَاسْتَسْلِمُوا للنُّعاسْ
بَعْدَ هذا الْحِصارِ الطّويلِ، ونَامُوا على ريشِ أَحْلامِنا […].[10]

الاقتباس من محمود درويش يضع “نقطة ارتكاز” العمل في وادي النسناس، لكن ليس بالضرورة كحيّز يهوديّ- عربيّ، بل كحيّز فلسطينيّ في الأساس. موضوع الحاضرين الغائبين يقع في صُلب الخطاب السياسيّ الفلسطينيّ، ويدرجه الفنّان موضوعةً رئيسيّة في عمله. نقطة ارتكاز هذا العمل تمدّ بجذورها نحو محمود درويش الشاعر الفلسطينيّ المعاصر الأهمّ، وتضع النصّ في الحيّز العامّ كنوع من المناكفة والتحدّي.

انطلاقة مهرجان “عيد الأعياد” في بيت الكرمة قبل 22 عامًا شكّلت بداية ظهور معارض وفضاءات عرض تفتح الباب لفضاءات خطاب جديدة، تلك التي تمكّن من عرض فنّ فلسطينيّ معاصر يجري إنتاجه في إسرائيل. الفنّانون الذين عرضوا في معارض “عيد الأعياد” تحوّلوا على مرّ السنين إلى أبرز سفراء الفنّ الفلسطينيّ، وحظيت أعمالهم في العَقد الأخير باهتمام منقطع النظير في حقل الفنون الدوليّ.

هؤلاء الفنّانون -خرّيجو مدارس الفنّ في إسرائيل- ينشطون داخل منظومة متعدّدة الثقافات، ويشكّلون فيها جزءًا من ثقافة أقلّيّة قوميّة؛ ويرتبطون أيضًا بروابط متعدّدة الأوجه بالثقافة القوميّة الفلسطينيّة، وكذلك بالحقل الفنّيّ في إسرائيل. تتوجّه أعمالهم لحقل الفنّ الإسرائيليّ، وكذلك لحقل الفنّ الفلسطينيّ بجمهورَيْهما، وللجهات المؤسّساتيّة فيهما، كأمناء المعارض، والنقّاد الفنّيّين، وهواة الجمع، والمتاحف، والمعارض، ومدارس الفنّ.

احمد كنعان، درب القهوة، 2005. تصوير: روني كورين

الحقوق محفوظة لبيت الكرمة المركز الثقافي العربي اليهودي، حيفا

في المقابلة التي أجرتها دانا غيلرمان مع حنّه كوفلير في العام 2004، عشيّة إحياء مرور 11 عامًا على إقامة المعرض، أشارت غيليرمان أنّ كوفلير لا ترى نفسَها أمينةَ المعرض وكمن تقاس بجودة المعروضات فيه وبالنظريّات التي ترافقه. وقالت: “الاسم الأدقّ لِما أقوم به هو الجمع، وفي النهاية أقوم بـِ “تطريز” الأمور معًا كي أنجح في فعل هذا الأمر داخل المحيط السكنيّ المأهول. هذا المعرض متعدّد المشاركين ومتعدّد الأجيال ومتعدّد الأوجه، ويتراوح بين الفولكلور وَ “الكيتش” والفنّ الاصطلاحيّ، مع كلّ ما بين هذا وذاك”.[11]

وأضافت كوفلير على ضوء نجاح المهرجان أنّ “هذا الحدث يشكّل فرصة للفنّانين الذين يرغبون في التعامل مع النحت في المحيط […]، لكن تستهويهم كذلك فكرة التعايش التي تقف من وراء المهرجان”. لكن بحسب أقوال غيلرمان، كوفلير -كآخرين غيرها- تشكّك في مصطلح “التعايش” الذي يرافق المهرجان منذ تأسيسه. “دعيك من التعايش، أنا لا أحبّ هذا المصطلح، ولو تسنّى لي لاستبدلت عنوان “التعايش” بـمصطلح “العيشَة”، نعم “العيشَة”، هكذا ببساطة”.

العيشة نفسها، بيئة السكن نفسها، هي إذًا نقطة الارتكاز الحقيقيّة واليوميّة التي تدور حولها الأعمال الفنّيّة. بهذا المفهوم، إنّ الخطاب النقديّ الذي تقدّمه كوفلير هو خطاب يمكّن من فرض الحضور؛ فعل ينضوي تحت عمل أمانة المعرض ويوفّر منصّة أو قاعدة أو فضاء عرض تتعايش فيها أنواع مختلفة من الخطاب- الواحد إلى جوار الآخر.

وتدّعي أريئيلا أزولاي في كتابها التدريب للفنّ[12] أنّ إبراز الحضور في الحيّز العامّ ما هو إلّا ممارسة نقديّة، وتشير أنّ إبراز الحضور يرفض توفير مسبّب الوجود للحقل الفنّيّ، أي للعمل الفنّيّ، وأنّ الحديث يدور عن ممارسة مختلفة لوضع علامة هُويّة ما في الحيّز العامّ، ينصبّ غالبيّة اهتمامها على “صنع ثقوب في الرواية المهيمنة”.[13] هذا التوصيف يتلاءم مع الحضور، ومع العمل الفنّيّ، للفنّانين العرب الذين يعملون في إطار معرض “عيد الأعياد” في السنوات الاثنتين والعشرين الأخيرة.

وادي النسناس (كحيّ عربي)، والأعمال الفنّيّة التي جرى توصيفها هنا، ومنظومات التأويل المرافقة لهما، كلّها تُمكّن سياسة الهُويّات من التحقّق والعمل في فضاءات خطاب نقديّة وسياسيّة تتحدّى المؤسّسة الفنّيّة القائمة.

الحضور الفلسطينيّ في الوادي استمدّ زخْمًا جِدّيًّا عندما أطلقت إدارة بيت الكرمة مشروع “طريق القصيدة”- وهو عبارة عن مسارات تتقصّى إثر قصائد في شوارع وادي النسناس، وعَرضت فيها قصائد لحنّا أبو حنّا، وسامي ميخائيل، وإميل حبيبي وشعراء آخرين. وكتب في كتالوغ المعرض من العام 2005 حول إميل حبيبي:

ملأ إميل حبيبي العديد من المواقع في حياته العريضة. فقد كان أديبًا ومسرحيًّا وكاتب مقالة وقائدًا سياسيًّا وابنًا بارًّا لشعبه العربيّ الفلسطينيّ. كما كان عاشقًا لمدينة حيفا -مسقط رأسه. وإبداعات حبيبي في مختلف المضامير، التي يمكن من خلالها الإطلال على الكينونة الفلسطينيّة عمومًا وداخل إسرائيل خصوصًا، حافلة بتوصيفات للمكان الذي عاش فيه وعايش تبدّلاته في منعطفات المصير الإنسانيّ. ومن الطبيعيّ أن تكون متّصلة اتّصالاً وثيقًا بمدينة حيفا، حيث اختار أن يرقد فيها رقدته الأبديّة داعيًا، في وصيّته الغنيّة بالدلالات، إلى نقش عبارة “باقٍ في حيفا” على شاهد قبره عند سفوح الكرمل وعلى مقربةٍ من زرقة البحر”.[14]

وضع الأعمال الشعريّة داخل فضاء أدبيّ يزخر باللغة العربيّة (إلى جوار الترجمة إلى العبريّة) يوسّع منظومة تأويلها، ويُموضعها كجزء من ثقافة فلسطينيّة رحبة وثريّة. بهذا المفهوم، فإنّ الثقافة البصريّة الناشئة في المعارض داخل وادي النسناس، المرّة تلو الأخرى، وعرضها في الحيّز العامّ، هي تعبير عن سرديّة موازية، ومنافِسة، وبديلة للمنطق القوميّ، لا بل إنّها تتآمر عليه أحيانًا. على الرغم من أنّ الفنّ الإسرائيليّ المعاصر بغالبيّته لا يزال ينشط في الإطار الحصريّ للخطاب العبريّ والمنطق القوميّ، فإنّ هذا النشاط (الـ “عيشَة” -على حدّ تعبير كوبلر) يولّد إمكانيّة العمل على نحو نقديّ داخل هذه الأطر وفي مواجهتها.

تسييس الحضور الفنّيّ بما يحمل من روايات تاريخيّة، يمكّن من الاعتراف بهُويّة الفنّانين، لا بل إنّه يجعل من الصعب محو هذا الحضور في إطار منظومات الخطاب والتأويل الفنّيّة الخاصّة بتلك الفترة. خلقت معارض “عيد الأعياد” حضورًا متواصلًا لثقافة عربيّة- فلسطينيّة في الحيّز العامّ، وهذا الحضور يشكّل نقطة ارتكاز تعني المطالبة بالحضور الدائم للمجتمعيّ- الاجتماعيّ- الثقافيّ داخل حيّز قوميّ مهيمن، وهي مطالبة تُطرح علنًا وفي وضح النهار، لا كموقف تآمريّ يعمل خفيّة، ولا كموقف هامشيّ للنسيان والتغييب.

  • ترجم المقال من العبرية جلال حسن

المراجع:

[1] من موقع ” عيد الأعياد” الإلكترونيّ http://haifahag.com/Pages.aspx?pageID=2.

[2] من بين الكتالوجات التي حرّرتها حنّه كوبلير وأصدرها بيت الكرمة – المركز الثقافيّ العربيّ اليهوديّ نذكر: حيّز معيشيّ- معرض الفنّانين العرب القطريّ (2000)؛ أولاد، عيد الأعياد (2001)؛ طبيعة صامتة، شهر الثقافة والكتاب العربيّ (2002)؛ الضوء والظلّ، شهر الثقافة والكتاب العربيّ (2004)؛ ساحة لعب: عيد الأعياد ( 2005).

[3] عرض هؤلاء أعمالهم إلى جانب الفنّانين: عوفرا تشيمبليستا، ران هَراري، أريئيلا فيرتهايمر، مارتين أغمون، شولي نَحشون، دورون إيليا، تمار شحوري، إفراهام إيلات، جون ريردون، ناديا لايبمان، رونين لايبمان، رونين يسرالسكي، كوبي هارئيل، غدعون غيخطمان، جاك جانو، إيلي ران، نوريت تساديربويم، شموئيل بيئير، بلو- سيميون فاينيرو، إلداد رفائيلي، وميكي كارتسمان.

[4] حنّه كوبلير، 1999. لُحمة وسَدى، حيفا: بيت هَجيفن. ملاحظة المترجم: أخذت الترجمة العربيّة لأقوال كوبلير عن موقع عيد الأعياد:

http://mwwart.com/ExibitionArticles.aspx?ExhibitionCssClassNum=3&YearNumber=1996&ExhibitionId=1

(الدخول الأخير للموقع في تاريخ 3.2.2016).

[5] المصدر السابق.

[6] أورا بيرفمان، 1996. “تابنيت نوف مولادتام” (“قالب طبيعة وطنهم”)، أسبوعيّة كولبو الحيفاويّة، 13.12.1996. للتوسّع حول أعمال عبد عابدي، راجِعوا: طال بن تسفي، 2010. أعمال عبد عابدي، 50 عامًا من الإبداع، إصدار صالة العرض أمّ الفحم.

[7] راجِعوا الملاحظة 4 أعلاه.

[8] للاستزادة حول معرض جمانة إميل عبود، راجِعوا في الكتالوغ: طال بن تسفي، 2000، شرق أوسط جديد- 11 معرضًا منفردًا في غاليري هيانريخ بيل، تل أبيب يافا، جمعيّة هَغار.

[9] هيلا شكولنيك، “أميرة في الوادي”، 1999، أسبوعيّة كولبو الحيفاويّة، 8.1.1999.

[10] محمود درويش، “في المساء الأخير على هذه الأرض”، أحد عشر كوكبًا، دار الجديد، 1993، ط.3، ص 9.

[11] دينا غاليرمان، 2004. “حتّى البؤس يبدو مغريًا”، هآرتس، 9.12.2004، ص د3.

[12] أريئيلا أزولاي، 1999، تدريب للفنّ: نقد الاقتصاد الموسيقيّ، تل أبيب: هَكيبوتس هَميؤوحاد، ص 163.

[13] المصدر السابق، ص 164.

[14] سهام داوود، 2005، ساحة لعب: عيد الأعياد (تحرير: حنّه كوبلير)، حيفا: بيت هَغيفين.د. طال بن تسفي”

د. طال بن تسفي هي محاضرة في بتسالئيل، أكاديمية الفنون والتصميم، القدس. أمينة معارض مستقلة وباحثة في الثقافة

تال بن تسافي

מִנְבַּר

مهرجان “عيد الأعياد”، الذي يقام في شهر كانون الأوّل من كلّ عام في حيّ وادي النسناس في حيفا، بدأ مشواره في شهر كانون الأوّل من العام 1993، ويومها احتفلت الديانات الثلاث في الوقت ذاته تقريبًا بعيد الحانوكا وعيد الميلاد وحلول شهر رمضان. هذا المهرجان الذي بادر إليه بيت الكرمة- المركز الثقافيّ العربيّ اليهوديّ، بالتعاون مع بلدية حيفا، “يهدف إلى تشجيع وتعزيز التسامح والتقبّل والاحترام المتبادل من خلال الفنّ والثقافة”.[1] الحدث المركزيّ في هذا المهرجان هو معرض فنّيّ يعرض فيه فنّانون مختلف أعمالهم ولوحاتهم. المعرض الأوّل لمهرجان “عيد الأعياد” امتدّ من فضاءات العرض التابعة لبيت الكرمة حتّى الأدراج الحجريّة التي تُفضي إلى الوادي، وعلى امتداد الشوارع المحيطة بالحيّ. في العام 1996، عُيّنت حنّه كوفلير أمينة للمعرض، وواصلت عملها هذا لعقد من الزمن، حتّى العام 2006 بالتحديد؛ يرافق المعرضَ في كلّ عام إصدارُ كتالوج يحتوي على نصوص تأويليّة شاملة باللغات العربيّة والعبريّة والإنجليزيّة .[2] هذا التقليد يتواصل حتّى يومنا هذا، حيث تمكّن على امتداد 22 عامًا من خلق فضاء متحفيّ بحضورٍ لافت للغاية.

برز حضور الفنّانين العرب بدءًا من المعرض الأوّل الذي قامت كوفلير على أمانته، حيث عُرضت حينذاك أعمال لعبد عابدي، وإبراهيم نوباني، وحسن خاطر، ورنا بشارة، وجمال حسن، وجمانة إميل عبود، وأسد عزّي، وعامر درباس، وأحمد كنعان.[3] في سنوات التسعين، لم يحصل أنْ عُرِض هذا الكمّ الكبير من أعمال الفنّانين العرب خرّيجي مدارس الفنون في إسرائيل، ملحقة بنصوص باللغة العربيّة، في فضاء يوصف على نحو طبيعيّ بأنّه فضاء مجتمعيّ عربيّ.

في كتالوج المعرض الأوّل الذي قامت كوفلير على أمانته “لُحمة وسَدى” (1996) جاءت افتتاحيّتها على النحو التالي:

“الاختلاط الفنّيّ في مشروع وادي النسناس ناجم عن الطابع الرئيسيّ للمكان، على ما فيه من نسيج بشريّ ومركّبات مدنيّة، وكذلك عن المسألة الاجتماعيّة التي يهتمّ فيها “بيت الكرمة” الملتصق به كمركز ثقافيّ يهوديّ – عربيّ. لقاء الفنّ، المؤلّف من أسس عديدة مادّيّة وروحانيّة، يمكّن الفنّانين المشتركين فيه من نصب إبداعاتهم في إطار مفتوح يجسّد بالملموس إزالة السدود بين ما يُعتبر فنًّا نخبويًّا وبين الفنّ الشعبيّ، بين المقولة الثقافيّة وبين التعبير الفنّيّ الإثنيّ، بين الموادّ الأصليّة وبين الموادّ “الفقيرة”، بين المركز والأطراف، وبين المفاهيم “الراهنة” والمفاهيم التقليديّة، بغية خلق نقاط التقاء تتواصل في عين المُشاهد مع مخزون متنوّع الألوان من غير اللُّحمة فيه لا يكون للسَّدى موطئ قدم”.[4]

الوادي بذاته كان نقطة ارتكاز المعرض، وبعض الأعمال كانت site specific، أي إنّها أُنتجت خصّيصًا للمعرض، وجرى تصميمها كي توضع في الوادي. هكذا على سبيل المثال كتبت كوفلير حول الفنّانة رنا بشارة، خرّيجة دائرة الفنون في جامعة حيفا والتي تسكن في قرية ترشيحا:

“أثمرت هذه المرّة نحتًا بيئيًّا خُطّط خصّيصًا لبؤرة عينيّة في الوادي. “صرخة الوادي” لرنا هي مقولة اجتماعيّة سياسيّة تتطرّق إلى أحياء مثل وادي النسناس أو وادي الصليب جرى فيها هدم وإغلاق بيوت على مدار السنين، كما في أحياء أخرى في حيفا جرت فيها في الماضي تنمية وتطوير المجد الهندسيّ المعماريّ العربيّ. احتجاج رنا ينفجر من حائط منفرد وبقايا منزل عتيق تعرّض للهدم، ويمكن أن نشخّص فيه طبقات اللون المقشورة. الجدار كلّه مغطّى بمادّة جاهزة عضويّة – أوراق صبّار لحميّة كما لو أنّها “خيطت” عليه كزينة أو سياج حيّ حسبما هو متّبَع في القرى العربيّة. وبين أوراق الصبّار (التي أصبحت رمزًا للقرية العربيّة) أدخلت شظايا البلاط المرسومة التي بقيت في المنطقة، شهادة غاضبة على بيت كان هناك مرّة وعلى جلبة الحياة التي سكنته”.[5]

يعرض نصّ كوفلير الأغراض التي تتكوّن منها الأيقونوغرافيا الفلسطينيّة: شواهد قبور، وبيوت مدمّرة، وبلاطات مزركشة، وشجرة صبّار، وأشجار زيتون. الفنّان الحيفاويّ عبد عابدي الذي عرض أعمالًا له في معرض العام 1996 ربط في مقابلة أجريت معه بين “نقطة تشبّث” الوادي وواقع الحال الفلسطينيّ:

كعضو في لجنة التوجيه لإعادة ترميم الوادي التابعة لوزارة البناء والإسكان، أنا متداخل تمامًا بالمحيط، وأخاف من اليوم الذي ستداهم فيه البولدوزرات المكان الذي كبرت وترعرعت فيه، وتبقيه عينًا بعد أثر. هذا المكان يجسّد واقعًا معيشيًّا يعبّر عنا. للأسف الشديد ثمّة أمثلة كثيرة لأحياء -وقرى كذلك- جرى تدميرها بالكامل لأسباب سياسيّة بعد العام 1948، وتدمير غير مبرّر في حيفا حتّى في العَقد الأخير، وأقصد التدمير الحاصل في حيّ وادي الصليب.[6]

ضمّ المعرض المذكور عملًا فنّيًّا آخر تناول البيت الفلسطينيّ وهو عمل تنصيبيّ للفنّانة جُمانة إميل عبّود والذي ضمّ صورًا وتدوينات وأغراض مختلفة. ووصفت كوفلير هذا العمل التنصيبيّ على النحو التالي: “جمانة، التي عادت إلى مدينة طفولتها شفاعمرو بعد إقامة طويلة في كندا، تكتشف مجدّدًا سحر النسويّة في البيت الشرقيّ وتتواصل معها بواسطة موتيفات تزيينيّة ومقاطع ذكريات. إنّها تستعمل مناظر الطفولة، وقطعًا زخرفيّة ذات طابع محلّيّ […]”.[7]

البيت في شفاعمرو يعرّف في هذا النصّ كبيت شرقيّ ذي طابع محلّيّ. بعد ذلك بعامين، شكّلت هذه الاستعارات والبيت في شفاعمرو محورَ معرض قمتُ على أمانته في غاليري هاينريخ بيل. في نصّ المعرض كتبتُ أنّ جمانة إميل عبود تتعامل مع هذه الصور والاستعارات كوطن ضائع، وهي تمكّننا من التعرّف عن كثب على الثقافة الفلسطينيّة. [8]

في تسعينيّات القرن العشرين طرأ تغيير على الخطاب الذي يتناول أعمال الفنّانين العرب، وانصبّ في الأساس على التحوّل نحو خطاب تأويليّ فلسطينيّ. أحد الأمثلة البارزة على ذلك يظهر في معرض آخر لـِ “عيد الأعياد”، براءة 2000 الذي قامت على أمانته كوفلير في العام 1999، وعرض فيه أحمد كنعان عمله الفنّيّ “الحاضر الغائب” (تقنيّات مختلطة، 1988). وقد وصفت الصحفيّة هيلا شكولنيك العمل على النحو التالي:

بيت أحمد كنعان هو قفص على حافة الهاوية ربطت فيه مفاتيح كبيرة، وفي ذلك تتحقّق ثنائيّة: السجن من ناحية، وإمكانية دخول كلّ من يرغب في ذلك من ناحية أخرى. هذا البيت، على الرغم من حطام البلاط الشرقيّ المزركش، هو بيت لا يتبع لأحد، بيت مهجور، وبيت جرى اقتحامه، وسكّانه هجروه أو هُجّروا منه، ولا أحد يريده. [9]

ألحق كنعان بعمله هذا مقطوعة من قصيدة لمحمود درويش تلخّص التعامل القيميّ مع البيت:

…هُنا فِي المساءِ الأخيرْ

نَتَمَلّى الْجبالَ المُحيطَةَ بِالْغَيْم: فتحٌ … وَفَتْحٌ مُضادّ

وَزَمانٌ قَديمٌ يُسَلِّمُ هذا الزّمانَ الْجَديدَ مَفاتيح أَبْوابِنا

فادْخلوا، أيَّها الْفاتِحونَ، مَنازِلَنا واشْرَبوا خَمْرَنا […]

شايُنا أَخَضْر ساخِنٌ فاشْرَبوهُ، وَفُسْتُقنُا طازَجٌ فَكُلوه

والأسرَّةُ خضراءُ من خَشَب الأرْزِ، فَاسْتَسْلِمُوا للنُّعاسْ
بَعْدَ هذا الْحِصارِ الطّويلِ، ونَامُوا على ريشِ أَحْلامِنا […].[10]

الاقتباس من محمود درويش يضع “نقطة ارتكاز” العمل في وادي النسناس، لكن ليس بالضرورة كحيّز يهوديّ- عربيّ، بل كحيّز فلسطينيّ في الأساس. موضوع الحاضرين الغائبين يقع في صُلب الخطاب السياسيّ الفلسطينيّ، ويدرجه الفنّان موضوعةً رئيسيّة في عمله. نقطة ارتكاز هذا العمل تمدّ بجذورها نحو محمود درويش الشاعر الفلسطينيّ المعاصر الأهمّ، وتضع النصّ في الحيّز العامّ كنوع من المناكفة والتحدّي.

انطلاقة مهرجان “عيد الأعياد” في بيت الكرمة قبل 22 عامًا شكّلت بداية ظهور معارض وفضاءات عرض تفتح الباب لفضاءات خطاب جديدة، تلك التي تمكّن من عرض فنّ فلسطينيّ معاصر يجري إنتاجه في إسرائيل. الفنّانون الذين عرضوا في معارض “عيد الأعياد” تحوّلوا على مرّ السنين إلى أبرز سفراء الفنّ الفلسطينيّ، وحظيت أعمالهم في العَقد الأخير باهتمام منقطع النظير في حقل الفنون الدوليّ.

هؤلاء الفنّانون -خرّيجو مدارس الفنّ في إسرائيل- ينشطون داخل منظومة متعدّدة الثقافات، ويشكّلون فيها جزءًا من ثقافة أقلّيّة قوميّة؛ ويرتبطون أيضًا بروابط متعدّدة الأوجه بالثقافة القوميّة الفلسطينيّة، وكذلك بالحقل الفنّيّ في إسرائيل. تتوجّه أعمالهم لحقل الفنّ الإسرائيليّ، وكذلك لحقل الفنّ الفلسطينيّ بجمهورَيْهما، وللجهات المؤسّساتيّة فيهما، كأمناء المعارض، والنقّاد الفنّيّين، وهواة الجمع، والمتاحف، والمعارض، ومدارس الفنّ.

احمد كنعان، درب القهوة، 2005. تصوير: روني كورين

الحقوق محفوظة لبيت الكرمة المركز الثقافي العربي اليهودي، حيفا

في المقابلة التي أجرتها دانا غيلرمان مع حنّه كوفلير في العام 2004، عشيّة إحياء مرور 11 عامًا على إقامة المعرض، أشارت غيليرمان أنّ كوفلير لا ترى نفسَها أمينةَ المعرض وكمن تقاس بجودة المعروضات فيه وبالنظريّات التي ترافقه. وقالت: “الاسم الأدقّ لِما أقوم به هو الجمع، وفي النهاية أقوم بـِ “تطريز” الأمور معًا كي أنجح في فعل هذا الأمر داخل المحيط السكنيّ المأهول. هذا المعرض متعدّد المشاركين ومتعدّد الأجيال ومتعدّد الأوجه، ويتراوح بين الفولكلور وَ “الكيتش” والفنّ الاصطلاحيّ، مع كلّ ما بين هذا وذاك”.[11]

وأضافت كوفلير على ضوء نجاح المهرجان أنّ “هذا الحدث يشكّل فرصة للفنّانين الذين يرغبون في التعامل مع النحت في المحيط […]، لكن تستهويهم كذلك فكرة التعايش التي تقف من وراء المهرجان”. لكن بحسب أقوال غيلرمان، كوفلير -كآخرين غيرها- تشكّك في مصطلح “التعايش” الذي يرافق المهرجان منذ تأسيسه. “دعيك من التعايش، أنا لا أحبّ هذا المصطلح، ولو تسنّى لي لاستبدلت عنوان “التعايش” بـمصطلح “العيشَة”، نعم “العيشَة”، هكذا ببساطة”.

العيشة نفسها، بيئة السكن نفسها، هي إذًا نقطة الارتكاز الحقيقيّة واليوميّة التي تدور حولها الأعمال الفنّيّة. بهذا المفهوم، إنّ الخطاب النقديّ الذي تقدّمه كوفلير هو خطاب يمكّن من فرض الحضور؛ فعل ينضوي تحت عمل أمانة المعرض ويوفّر منصّة أو قاعدة أو فضاء عرض تتعايش فيها أنواع مختلفة من الخطاب- الواحد إلى جوار الآخر.

وتدّعي أريئيلا أزولاي في كتابها التدريب للفنّ[12] أنّ إبراز الحضور في الحيّز العامّ ما هو إلّا ممارسة نقديّة، وتشير أنّ إبراز الحضور يرفض توفير مسبّب الوجود للحقل الفنّيّ، أي للعمل الفنّيّ، وأنّ الحديث يدور عن ممارسة مختلفة لوضع علامة هُويّة ما في الحيّز العامّ، ينصبّ غالبيّة اهتمامها على “صنع ثقوب في الرواية المهيمنة”.[13] هذا التوصيف يتلاءم مع الحضور، ومع العمل الفنّيّ، للفنّانين العرب الذين يعملون في إطار معرض “عيد الأعياد” في السنوات الاثنتين والعشرين الأخيرة.

وادي النسناس (كحيّ عربي)، والأعمال الفنّيّة التي جرى توصيفها هنا، ومنظومات التأويل المرافقة لهما، كلّها تُمكّن سياسة الهُويّات من التحقّق والعمل في فضاءات خطاب نقديّة وسياسيّة تتحدّى المؤسّسة الفنّيّة القائمة.

الحضور الفلسطينيّ في الوادي استمدّ زخْمًا جِدّيًّا عندما أطلقت إدارة بيت الكرمة مشروع “طريق القصيدة”- وهو عبارة عن مسارات تتقصّى إثر قصائد في شوارع وادي النسناس، وعَرضت فيها قصائد لحنّا أبو حنّا، وسامي ميخائيل، وإميل حبيبي وشعراء آخرين. وكتب في كتالوغ المعرض من العام 2005 حول إميل حبيبي:

ملأ إميل حبيبي العديد من المواقع في حياته العريضة. فقد كان أديبًا ومسرحيًّا وكاتب مقالة وقائدًا سياسيًّا وابنًا بارًّا لشعبه العربيّ الفلسطينيّ. كما كان عاشقًا لمدينة حيفا -مسقط رأسه. وإبداعات حبيبي في مختلف المضامير، التي يمكن من خلالها الإطلال على الكينونة الفلسطينيّة عمومًا وداخل إسرائيل خصوصًا، حافلة بتوصيفات للمكان الذي عاش فيه وعايش تبدّلاته في منعطفات المصير الإنسانيّ. ومن الطبيعيّ أن تكون متّصلة اتّصالاً وثيقًا بمدينة حيفا، حيث اختار أن يرقد فيها رقدته الأبديّة داعيًا، في وصيّته الغنيّة بالدلالات، إلى نقش عبارة “باقٍ في حيفا” على شاهد قبره عند سفوح الكرمل وعلى مقربةٍ من زرقة البحر”.[14]

وضع الأعمال الشعريّة داخل فضاء أدبيّ يزخر باللغة العربيّة (إلى جوار الترجمة إلى العبريّة) يوسّع منظومة تأويلها، ويُموضعها كجزء من ثقافة فلسطينيّة رحبة وثريّة. بهذا المفهوم، فإنّ الثقافة البصريّة الناشئة في المعارض داخل وادي النسناس، المرّة تلو الأخرى، وعرضها في الحيّز العامّ، هي تعبير عن سرديّة موازية، ومنافِسة، وبديلة للمنطق القوميّ، لا بل إنّها تتآمر عليه أحيانًا. على الرغم من أنّ الفنّ الإسرائيليّ المعاصر بغالبيّته لا يزال ينشط في الإطار الحصريّ للخطاب العبريّ والمنطق القوميّ، فإنّ هذا النشاط (الـ “عيشَة” -على حدّ تعبير كوبلر) يولّد إمكانيّة العمل على نحو نقديّ داخل هذه الأطر وفي مواجهتها.

تسييس الحضور الفنّيّ بما يحمل من روايات تاريخيّة، يمكّن من الاعتراف بهُويّة الفنّانين، لا بل إنّه يجعل من الصعب محو هذا الحضور في إطار منظومات الخطاب والتأويل الفنّيّة الخاصّة بتلك الفترة. خلقت معارض “عيد الأعياد” حضورًا متواصلًا لثقافة عربيّة- فلسطينيّة في الحيّز العامّ، وهذا الحضور يشكّل نقطة ارتكاز تعني المطالبة بالحضور الدائم للمجتمعيّ- الاجتماعيّ- الثقافيّ داخل حيّز قوميّ مهيمن، وهي مطالبة تُطرح علنًا وفي وضح النهار، لا كموقف تآمريّ يعمل خفيّة، ولا كموقف هامشيّ للنسيان والتغييب.

  • ترجم المقال من العبرية جلال حسن

المراجع:

[1] من موقع ” عيد الأعياد” الإلكترونيّ http://haifahag.com/Pages.aspx?pageID=2.

[2] من بين الكتالوجات التي حرّرتها حنّه كوبلير وأصدرها بيت الكرمة – المركز الثقافيّ العربيّ اليهوديّ نذكر: حيّز معيشيّ- معرض الفنّانين العرب القطريّ (2000)؛ أولاد، عيد الأعياد (2001)؛ طبيعة صامتة، شهر الثقافة والكتاب العربيّ (2002)؛ الضوء والظلّ، شهر الثقافة والكتاب العربيّ (2004)؛ ساحة لعب: عيد الأعياد ( 2005).

[3] عرض هؤلاء أعمالهم إلى جانب الفنّانين: عوفرا تشيمبليستا، ران هَراري، أريئيلا فيرتهايمر، مارتين أغمون، شولي نَحشون، دورون إيليا، تمار شحوري، إفراهام إيلات، جون ريردون، ناديا لايبمان، رونين لايبمان، رونين يسرالسكي، كوبي هارئيل، غدعون غيخطمان، جاك جانو، إيلي ران، نوريت تساديربويم، شموئيل بيئير، بلو- سيميون فاينيرو، إلداد رفائيلي، وميكي كارتسمان.

[4] حنّه كوبلير، 1999. لُحمة وسَدى، حيفا: بيت هَجيفن. ملاحظة المترجم: أخذت الترجمة العربيّة لأقوال كوبلير عن موقع عيد الأعياد:

http://mwwart.com/ExibitionArticles.aspx?ExhibitionCssClassNum=3&YearNumber=1996&ExhibitionId=1

(الدخول الأخير للموقع في تاريخ 3.2.2016).

[5] المصدر السابق.

[6] أورا بيرفمان، 1996. “تابنيت نوف مولادتام” (“قالب طبيعة وطنهم”)، أسبوعيّة كولبو الحيفاويّة، 13.12.1996. للتوسّع حول أعمال عبد عابدي، راجِعوا: طال بن تسفي، 2010. أعمال عبد عابدي، 50 عامًا من الإبداع، إصدار صالة العرض أمّ الفحم.

[7] راجِعوا الملاحظة 4 أعلاه.

[8] للاستزادة حول معرض جمانة إميل عبود، راجِعوا في الكتالوغ: طال بن تسفي، 2000، شرق أوسط جديد- 11 معرضًا منفردًا في غاليري هيانريخ بيل، تل أبيب يافا، جمعيّة هَغار.

[9] هيلا شكولنيك، “أميرة في الوادي”، 1999، أسبوعيّة كولبو الحيفاويّة، 8.1.1999.

[10] محمود درويش، “في المساء الأخير على هذه الأرض”، أحد عشر كوكبًا، دار الجديد، 1993، ط.3، ص 9.

[11] دينا غاليرمان، 2004. “حتّى البؤس يبدو مغريًا”، هآرتس، 9.12.2004، ص د3.

[12] أريئيلا أزولاي، 1999، تدريب للفنّ: نقد الاقتصاد الموسيقيّ، تل أبيب: هَكيبوتس هَميؤوحاد، ص 163.

[13] المصدر السابق، ص 164.

[14] سهام داوود، 2005، ساحة لعب: عيد الأعياد (تحرير: حنّه كوبلير)، حيفا: بيت هَغيفين.د. طال بن تسفي”

د. طال بن تسفي هي محاضرة في بتسالئيل، أكاديمية الفنون والتصميم، القدس. أمينة معارض مستقلة وباحثة في الثقافة

Below are share buttons

גליונות אחרונים

לכל הגליונות