Below are share buttons

علمنة الدين والهوية اليهودية في “يهودية وديمقراطية”

عدد 09,

أودّ أن أبيّن، في هذه المقالة، أن دولة إسرائيل، عن ببنيتها الدستورية الحالية وفي الخطاب السياسي الذي ترفعه وتروّجه، تعيد تشكيل وتصميم الهوية اليهودية من جديد على نحو يُفرغ هذه الهوية من مقوّماتها ومركبّاتها التي كانت جوهرية جدًا بالنسبة لها على مدى أجيال. وسأدّعي، أيضًا، بأن الاستخدام الإسرائيلي الراهن لتعبير “يهودي”، كما سَنّ قانون القومية أيضًا، لا يشكّلان تهديدًا على مواطني إسرائيل غير اليهود فحسب، وإنما أيضًا، وربما بالأساس، على اليهود المعنيين ببقاء واستمرار الهوية اليهودية التقليدية. وسأعرض، في نهاية المقال، تركيبة أخرى للشراكة العربية ـ اليهودية تقوم على أساس رؤية تحييد مبنى القوة الذي تشكَّل في ظل اليهودية، تحت رعايتها وعلى حسابها.

العلمنة السياسية لليهودية

اقترح الفيلسوف جورجيو أج‍امبين تعريف العلمَنة بأنها فعل سياسي يحوّل مبنى القوة، الديني في أساسه، والقائم على الفصل بين المقدّس والدنس، إلى مبنى قوة جديد يقوم على الفواصل ذاتها، لكن على الصعيد الدنيوي. بهذا المعنى، قد يقوم بتحويل مبنى القوة الديني إلى مبنى قوة علماني أشخاص متدينون، يتبين أحيانًا أنهم أكثر نجاحًا، ربما، في نقل اللغة والثقافية الدينية من بؤرة التركيز الروحاني إلى بؤرة التركيز السياسي ـ الدنيوي. تستبدل الثورات المُعلمِنة اللهَ بالمرشد الأعلى، بالبلد أو بالأمّة؛ القومية العلمانية تطلب من معتنقيها التضحية بالذات؛ لها مؤسساتها المقدسة الخاصة ـ حتى أنهم في إسرائيل قد نسخوا أسماء المؤسسات الدينية العتيقة، مثل “مشكان هكنيست” (مقر الكنيست) أو “هيخال بيت همشباط” (مقر المحكمة)، بحيث تخلق اللغة ارتباطًا مباشرًا بين القدسية الدينية والقدسية العلمانية.

من فيض ردود الفعل اليهودية الحديثة، تكشف دراسة الصهيونية السياسية برسم هذه التعريفات أنها كانت تتطلع إلى تغيير الخلاص الإلهي، الذي يشكل صلب اليهودية التقليدية، بتطبيق حكم ذاتي سياسي ـ دنيوي، من خلال الإبقاء على الفصل التقليدي وعلمنته. أرى إنه من غير الممكن فهم الصهيونية الحالية، بما فيها الصهيونية الدينية، دون الانتباه إلى أنها تقوم على علمنة اليهودية. الفئات، التصنيفات، اللغة والرموز التقليدية باقية على حالها، لكنها تكتسب معنًى جديدًا. هذا الطمس بين اللغة الدينية ـ اليهودية واللغة العلمانية ـ الإسرائيلية يجري في اتجاه واحد فقط، على الدوام: بغية تعزيز شرعية مبنى القوة العلماني ـ الديني، من خلال تعزيز العلاقة بينه وبين مصطلحات مقدسة تقيم في الذاكرة اليهودية الجماعية. بهذا المعنى، يمكن القول إن عبارة / مقولة “العلمنة هي نوع من القمع” تترك القوى المنافسة لها على حالها، لكنها تستنسخها، من مكان إلى آخر.

كانت اليهودية التقليدية والما قبل سياسية، في أساسها، منهج حياة شملت تأدية الفروض وانتظار الخلاص. معنى ذلك، أن الانشغال الدائم بتصنيفات المقدس والدنِس، الإيمان بأن ثمة آمِرًا خارج الطبيعة وطُموحًا لدى المأمور بأن يلامس شيئًا ما في الما وراء، أن يخطو نحو عالم سيفوز بالخلاص مستقبلًا. مع إقامة الدولة، أقيم مبنى قوة يهودي جديد، لا تزال اليهودية في صيغتها المعلمَنة تلعب في إطاره، حتى الآن، دورًا مركزيًا في خلق ووضع الفواصل والتصنيفات. إنها تقف في صلب مبنى القوة الإسرائيلي، تجعل التصنيفات أكثر حدةً، ترسم دائرة الانتماء، تمنح هؤلاء تفويضًا للملكية وتسلبه من أولئك. إنه عالم لا تزال اليهودية فيه في المركز، إلا أن وظيفتها قد انقلبت رأسًا على عقب، من منظومة قوانين إلهية طرحت بديلًا للنظام السياسي القائم، إلى قومية ضيقة تعزز المبنى القانوني للدولة.

بدون البُعد الخلاصيّ ـ الإعجازيّ، تبقى اليهودية مبرِّرًا لمبنى القوة الذي يشكل تكريسه هدفاً إسرائيلياً. إذا كانت الدولة تستخدم القوة، فذلك لأنها الممثلة المخلصة للشعب اليهودي، هي المسؤولة عن استمرار بقاء اليهودية، ولذا فإن دعمها وتقويتها هما دعم وتقوية لليهودية. إنها يهودية خالية من المضمون، هي سبب ذاتها، الوسيلة والغاية. ولهذا، يجري استخدام تعبير “يهودي” في إسرائيل، على الدوام، بصورة دائرية: الدولة يهودية، لذلك عليها تعزيز الهوية اليهودية، على أن تعزز هذه الهوية، بدورها، تعريف الدولة كيهودية. تعريف الدولة بأنها “يهودية وديمقراطية” وسن قانون القومية هما التعبيران الأوضح عن هذه الوجهة. ولئن كان التعريف القانوني لكلمة “يهودية” غامضًا إلى أقصى الحدود في القانون الإسرائيلي، فذلك لأن “اليهودية” الإسرائيلية ـ السياسية لا تحمل مضمونًا جوهريًا. “اليهودية” في القانون الإسرائيلي القائم ليست، إذن، مبررًا لاستخدام القوة المشروع من جانب الدولة، بل هي القوة بعينها.

بُعد آخر يمكن من خلاله استشعار الثورة التي حصلت في اليهودية ضمن السياق الإسرائيلي، هو استخدام تعبير “مسيانية”. إذا كانت المسيانية التقليدية قد تطلعت إلى تحييد مبنى القوة الإنساني وطرح بديل مثاليّ يقطع الاستمرارية التاريخية، فإن المسيانية في الخطاب الإسرائيلي هي دفع مبنى القوة السياسي نحو المزيد من التطرف، تحديدًا. قيادة المسيانية الصهيونية هي الصهيونية الدينية بالذات، والتي تدفع العلمنة السياسية لليهودية نحو أقصى درجات التطرف، كمِسخ يتمرد على خالقه الصهيوني الليبرالي، غالبًا. إنها يهودية معادية للتقليدية، ترى الخلاص التام ليس كقطعٍ للوقت القومي وإنما كخطوة إضافية أخرى تؤدي إلى مزيد من التطرف في الوجهة الحالية. التطلع هو نحو تعزيز مبنى القوة السياسي بواسطة السيطرة المطلقة على مساحة أوسع من الأرض، الفصل الحاد بين اليهود وغير اليهود، إنشاء معبد من غير تجلٍّ إلهيّ، ثيوقراطية من غير نبوءة. أي، مبنى قوة ديني معلمَن حتى النهاية.

قضية الشراكة العربية ـ اليهودية في إسرائيل

حاولت، إلى هذا الحد، أن أبيّن أن الدولة تخوض صراعًا طويل الأمد للتحكّم بتشكيل اليهودية، يتجسد في صورتين: الأولى، بواسطة قمع الهوية اليهودية التقليدية وإخضاعها لهوية قومية ضيقة تخدم المصلحة السياسية؛ وكذلك بواسطة الاستخدام الأداتيّ لتعبير “يهودي” من أجل إيجاد تصنيفات وفواصل بين اليهود والعرب. في الأسطر التالية، سأطرح الادعاء بأن الدفع نحو شراكة يهودية ـ عربية من شأنه أن يلعب دورًا هامًا في تحييد مبنى القوة الإسرائيلي، لصالح كلتا المجموعتين.

يطرح خطاب الشراكة اليهودية ـ العربية اليوم، في الغالب، أشخاص يُلاحَظ لديهم نكوص في الهوية الخصوصية؛ إنهم اليهود والعرب الذين تُعتَبر يهوديتهم أو عروبتهم عرَضية وليست ذات معنى غنيّ ووازن بالنسبة لهم. في أساس هذه الشراكة، رؤية ليبرالية تطمح إلى استيلاد هوية مدنية مشتركة على حساب إضعاف الهويات الخصوصية. هذه المواطنة الجديدة، التي ستؤول في نهاية المطاف إلى انصهار مجموعة الأقلية في إطار مجموعة الأغلبية، أو إنشاء مجموعة جديدة في أفضل الأحوال، تتشكل على أنقاض المجموعات القائمة. على ذلك، أعتقد بأن رؤية الشراكة الليبرالية محكومة بالفشل، لأنها مؤسَّسة على فكرة التقدم والنسيان، فتكون عاجزة عن تحقيق أية عدالة تجاه الأجيال الماضية. إنها رؤية تتبنى، في جوهرها، مبنى القوة القائم وتتعامل مع الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني على محور متسلسِل زمنيًّا، من مجموعتين حاربت كل منهما من أجل استقلالها الإثني، إلى مجموعتين قد أصبحتا “بالغتين” وناضجتين للاندماج معًا.

يجب على الشراكة اليهودية ـ العربية التي تقود التغيير وتتيح قطع التاريخ الكرونولوجي للصراع أن تُبنى على أساس آخر، مختلف تمامًا. ليس من منطلق الرغبة في تنمية هوية مدنية جديدة، ولكن من منطلق الرغبة في تحرير كلتا المجموعتين من التصنيف والتقييد الهوياتيّ اللذين فُرضا عليهما. هذه ليست “شراكة دينية” بالضرورة، مثلما هي ليست شراكة معادية لليبرالية. إنها شراكة تقوم على أساس موقف مختلف تجاه الماضي، اعتراف بوجود هوية يهودية وهوية فلسطينية قائمتين في فضاء يتجاوز الحدود الضيقة المحصورة في إسرائيل / فلسطين. كذلك، هي شراكة تصبو إلى تحييد مبنى القوة الذي شُيِّد هنا، انطلاقًا من الإدراك بأن هذا التحييد يمرّ عبر قطع الزمن الإسرائيلي وكشف الأصوات المكتومة من الماضي في الحاضر الراهن.

العلامة الأوضح لهذا الكسر هي أن العدالة للأجيال الماضية مضفورة مع الإصلاح الجاري في الحاضر. حين يجري تحييد مبنى القوة، حين يجري قطع التتابع التاريخي، تتيح لحظة الكسر إعادة تصميم الماضي من جديد وتداولًا جديدًا للمستقبل. شراكة كهذه، إذا ما نشأت، سيكون حليفها النجاح على وجه التحديد، لأنها تتيح جدلية مثمرة بين الماضي، الحاضر والمستقبل، وتركّزها معًا في هنا والآن.

في أطروحته حول مفهوم التاريخ، يدعو والتر بنيامين القارئ إلى التنصل من زمن التقدم “المتجانس والفارغ”، والذي يحوّل الحاضر إلى نقطة انتقالية بين الماضي والمستقبل. عندما لا يكون الحاضر نقطة صامتة بين نقطتين زمنيتين على الخط الطوليّ ذاته، فهو يسمح لأحداث تاريخية بأن تتشكل من جديد. يلتقي الماضي في قلب الحاضر، يسكب فيه معنى جديدًا، وهكذا يُكتَب “برنامج سري بين أجيال الماضي وجيلنا”. يمكن القول، بمعانٍ كثيرة ومختلفة، إن هذه المقالة القصيرة كُتبت مدفوعةً بالشعور بأنّ ثمة حاجة إلى قطع كهذا في التتابع التاريخي الإسرائيلي ـ الفلسطيني الذي لا يقود إلى أي حل في الأفق المنظور. من شأن مثل هذا القطع أن يستمد قوّته من موروث الماضي لدى كلتا المجموعتين، أن يطلب التوقف وأن يسأل: ما هو جوهر المشروع الصهيوني فيما يتصل بالهوية اليهودية وهل هذا الجوهر مرغوب في نظر أغلبية السكان في هذه البلاد، من اليهود والعرب على حد سواء؟ ينبغي للجواب على هذا السؤال أن يتيح إعادة تصميم الزمن الإسرائيلي من جديد، بحيث يقيم العدالة للأجيال الماضية ويضمن الإصلاح للجيل الحالي.

غبرئيل ابن تسور
غبرئيل ابن تسور هو زميل في كلية تعليم للحاخامية الإسرائيلية في معهد هرطمان وطالب دكتوراة في قسم تاريخ شعب إسرائيل في الجامعة العبرية/ القدس.

تصوير: عوديد أنتمان

جبريل أڤن تسور

מִנְבַּר

أودّ أن أبيّن، في هذه المقالة، أن دولة إسرائيل، عن ببنيتها الدستورية الحالية وفي الخطاب السياسي الذي ترفعه وتروّجه، تعيد تشكيل وتصميم الهوية اليهودية من جديد على نحو يُفرغ هذه الهوية من مقوّماتها ومركبّاتها التي كانت جوهرية جدًا بالنسبة لها على مدى أجيال. وسأدّعي، أيضًا، بأن الاستخدام الإسرائيلي الراهن لتعبير “يهودي”، كما سَنّ قانون القومية أيضًا، لا يشكّلان تهديدًا على مواطني إسرائيل غير اليهود فحسب، وإنما أيضًا، وربما بالأساس، على اليهود المعنيين ببقاء واستمرار الهوية اليهودية التقليدية. وسأعرض، في نهاية المقال، تركيبة أخرى للشراكة العربية ـ اليهودية تقوم على أساس رؤية تحييد مبنى القوة الذي تشكَّل في ظل اليهودية، تحت رعايتها وعلى حسابها.

العلمنة السياسية لليهودية

اقترح الفيلسوف جورجيو أج‍امبين تعريف العلمَنة بأنها فعل سياسي يحوّل مبنى القوة، الديني في أساسه، والقائم على الفصل بين المقدّس والدنس، إلى مبنى قوة جديد يقوم على الفواصل ذاتها، لكن على الصعيد الدنيوي. بهذا المعنى، قد يقوم بتحويل مبنى القوة الديني إلى مبنى قوة علماني أشخاص متدينون، يتبين أحيانًا أنهم أكثر نجاحًا، ربما، في نقل اللغة والثقافية الدينية من بؤرة التركيز الروحاني إلى بؤرة التركيز السياسي ـ الدنيوي. تستبدل الثورات المُعلمِنة اللهَ بالمرشد الأعلى، بالبلد أو بالأمّة؛ القومية العلمانية تطلب من معتنقيها التضحية بالذات؛ لها مؤسساتها المقدسة الخاصة ـ حتى أنهم في إسرائيل قد نسخوا أسماء المؤسسات الدينية العتيقة، مثل “مشكان هكنيست” (مقر الكنيست) أو “هيخال بيت همشباط” (مقر المحكمة)، بحيث تخلق اللغة ارتباطًا مباشرًا بين القدسية الدينية والقدسية العلمانية.

من فيض ردود الفعل اليهودية الحديثة، تكشف دراسة الصهيونية السياسية برسم هذه التعريفات أنها كانت تتطلع إلى تغيير الخلاص الإلهي، الذي يشكل صلب اليهودية التقليدية، بتطبيق حكم ذاتي سياسي ـ دنيوي، من خلال الإبقاء على الفصل التقليدي وعلمنته. أرى إنه من غير الممكن فهم الصهيونية الحالية، بما فيها الصهيونية الدينية، دون الانتباه إلى أنها تقوم على علمنة اليهودية. الفئات، التصنيفات، اللغة والرموز التقليدية باقية على حالها، لكنها تكتسب معنًى جديدًا. هذا الطمس بين اللغة الدينية ـ اليهودية واللغة العلمانية ـ الإسرائيلية يجري في اتجاه واحد فقط، على الدوام: بغية تعزيز شرعية مبنى القوة العلماني ـ الديني، من خلال تعزيز العلاقة بينه وبين مصطلحات مقدسة تقيم في الذاكرة اليهودية الجماعية. بهذا المعنى، يمكن القول إن عبارة / مقولة “العلمنة هي نوع من القمع” تترك القوى المنافسة لها على حالها، لكنها تستنسخها، من مكان إلى آخر.

كانت اليهودية التقليدية والما قبل سياسية، في أساسها، منهج حياة شملت تأدية الفروض وانتظار الخلاص. معنى ذلك، أن الانشغال الدائم بتصنيفات المقدس والدنِس، الإيمان بأن ثمة آمِرًا خارج الطبيعة وطُموحًا لدى المأمور بأن يلامس شيئًا ما في الما وراء، أن يخطو نحو عالم سيفوز بالخلاص مستقبلًا. مع إقامة الدولة، أقيم مبنى قوة يهودي جديد، لا تزال اليهودية في صيغتها المعلمَنة تلعب في إطاره، حتى الآن، دورًا مركزيًا في خلق ووضع الفواصل والتصنيفات. إنها تقف في صلب مبنى القوة الإسرائيلي، تجعل التصنيفات أكثر حدةً، ترسم دائرة الانتماء، تمنح هؤلاء تفويضًا للملكية وتسلبه من أولئك. إنه عالم لا تزال اليهودية فيه في المركز، إلا أن وظيفتها قد انقلبت رأسًا على عقب، من منظومة قوانين إلهية طرحت بديلًا للنظام السياسي القائم، إلى قومية ضيقة تعزز المبنى القانوني للدولة.

بدون البُعد الخلاصيّ ـ الإعجازيّ، تبقى اليهودية مبرِّرًا لمبنى القوة الذي يشكل تكريسه هدفاً إسرائيلياً. إذا كانت الدولة تستخدم القوة، فذلك لأنها الممثلة المخلصة للشعب اليهودي، هي المسؤولة عن استمرار بقاء اليهودية، ولذا فإن دعمها وتقويتها هما دعم وتقوية لليهودية. إنها يهودية خالية من المضمون، هي سبب ذاتها، الوسيلة والغاية. ولهذا، يجري استخدام تعبير “يهودي” في إسرائيل، على الدوام، بصورة دائرية: الدولة يهودية، لذلك عليها تعزيز الهوية اليهودية، على أن تعزز هذه الهوية، بدورها، تعريف الدولة كيهودية. تعريف الدولة بأنها “يهودية وديمقراطية” وسن قانون القومية هما التعبيران الأوضح عن هذه الوجهة. ولئن كان التعريف القانوني لكلمة “يهودية” غامضًا إلى أقصى الحدود في القانون الإسرائيلي، فذلك لأن “اليهودية” الإسرائيلية ـ السياسية لا تحمل مضمونًا جوهريًا. “اليهودية” في القانون الإسرائيلي القائم ليست، إذن، مبررًا لاستخدام القوة المشروع من جانب الدولة، بل هي القوة بعينها.

بُعد آخر يمكن من خلاله استشعار الثورة التي حصلت في اليهودية ضمن السياق الإسرائيلي، هو استخدام تعبير “مسيانية”. إذا كانت المسيانية التقليدية قد تطلعت إلى تحييد مبنى القوة الإنساني وطرح بديل مثاليّ يقطع الاستمرارية التاريخية، فإن المسيانية في الخطاب الإسرائيلي هي دفع مبنى القوة السياسي نحو المزيد من التطرف، تحديدًا. قيادة المسيانية الصهيونية هي الصهيونية الدينية بالذات، والتي تدفع العلمنة السياسية لليهودية نحو أقصى درجات التطرف، كمِسخ يتمرد على خالقه الصهيوني الليبرالي، غالبًا. إنها يهودية معادية للتقليدية، ترى الخلاص التام ليس كقطعٍ للوقت القومي وإنما كخطوة إضافية أخرى تؤدي إلى مزيد من التطرف في الوجهة الحالية. التطلع هو نحو تعزيز مبنى القوة السياسي بواسطة السيطرة المطلقة على مساحة أوسع من الأرض، الفصل الحاد بين اليهود وغير اليهود، إنشاء معبد من غير تجلٍّ إلهيّ، ثيوقراطية من غير نبوءة. أي، مبنى قوة ديني معلمَن حتى النهاية.

قضية الشراكة العربية ـ اليهودية في إسرائيل

حاولت، إلى هذا الحد، أن أبيّن أن الدولة تخوض صراعًا طويل الأمد للتحكّم بتشكيل اليهودية، يتجسد في صورتين: الأولى، بواسطة قمع الهوية اليهودية التقليدية وإخضاعها لهوية قومية ضيقة تخدم المصلحة السياسية؛ وكذلك بواسطة الاستخدام الأداتيّ لتعبير “يهودي” من أجل إيجاد تصنيفات وفواصل بين اليهود والعرب. في الأسطر التالية، سأطرح الادعاء بأن الدفع نحو شراكة يهودية ـ عربية من شأنه أن يلعب دورًا هامًا في تحييد مبنى القوة الإسرائيلي، لصالح كلتا المجموعتين.

يطرح خطاب الشراكة اليهودية ـ العربية اليوم، في الغالب، أشخاص يُلاحَظ لديهم نكوص في الهوية الخصوصية؛ إنهم اليهود والعرب الذين تُعتَبر يهوديتهم أو عروبتهم عرَضية وليست ذات معنى غنيّ ووازن بالنسبة لهم. في أساس هذه الشراكة، رؤية ليبرالية تطمح إلى استيلاد هوية مدنية مشتركة على حساب إضعاف الهويات الخصوصية. هذه المواطنة الجديدة، التي ستؤول في نهاية المطاف إلى انصهار مجموعة الأقلية في إطار مجموعة الأغلبية، أو إنشاء مجموعة جديدة في أفضل الأحوال، تتشكل على أنقاض المجموعات القائمة. على ذلك، أعتقد بأن رؤية الشراكة الليبرالية محكومة بالفشل، لأنها مؤسَّسة على فكرة التقدم والنسيان، فتكون عاجزة عن تحقيق أية عدالة تجاه الأجيال الماضية. إنها رؤية تتبنى، في جوهرها، مبنى القوة القائم وتتعامل مع الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني على محور متسلسِل زمنيًّا، من مجموعتين حاربت كل منهما من أجل استقلالها الإثني، إلى مجموعتين قد أصبحتا “بالغتين” وناضجتين للاندماج معًا.

يجب على الشراكة اليهودية ـ العربية التي تقود التغيير وتتيح قطع التاريخ الكرونولوجي للصراع أن تُبنى على أساس آخر، مختلف تمامًا. ليس من منطلق الرغبة في تنمية هوية مدنية جديدة، ولكن من منطلق الرغبة في تحرير كلتا المجموعتين من التصنيف والتقييد الهوياتيّ اللذين فُرضا عليهما. هذه ليست “شراكة دينية” بالضرورة، مثلما هي ليست شراكة معادية لليبرالية. إنها شراكة تقوم على أساس موقف مختلف تجاه الماضي، اعتراف بوجود هوية يهودية وهوية فلسطينية قائمتين في فضاء يتجاوز الحدود الضيقة المحصورة في إسرائيل / فلسطين. كذلك، هي شراكة تصبو إلى تحييد مبنى القوة الذي شُيِّد هنا، انطلاقًا من الإدراك بأن هذا التحييد يمرّ عبر قطع الزمن الإسرائيلي وكشف الأصوات المكتومة من الماضي في الحاضر الراهن.

العلامة الأوضح لهذا الكسر هي أن العدالة للأجيال الماضية مضفورة مع الإصلاح الجاري في الحاضر. حين يجري تحييد مبنى القوة، حين يجري قطع التتابع التاريخي، تتيح لحظة الكسر إعادة تصميم الماضي من جديد وتداولًا جديدًا للمستقبل. شراكة كهذه، إذا ما نشأت، سيكون حليفها النجاح على وجه التحديد، لأنها تتيح جدلية مثمرة بين الماضي، الحاضر والمستقبل، وتركّزها معًا في هنا والآن.

في أطروحته حول مفهوم التاريخ، يدعو والتر بنيامين القارئ إلى التنصل من زمن التقدم “المتجانس والفارغ”، والذي يحوّل الحاضر إلى نقطة انتقالية بين الماضي والمستقبل. عندما لا يكون الحاضر نقطة صامتة بين نقطتين زمنيتين على الخط الطوليّ ذاته، فهو يسمح لأحداث تاريخية بأن تتشكل من جديد. يلتقي الماضي في قلب الحاضر، يسكب فيه معنى جديدًا، وهكذا يُكتَب “برنامج سري بين أجيال الماضي وجيلنا”. يمكن القول، بمعانٍ كثيرة ومختلفة، إن هذه المقالة القصيرة كُتبت مدفوعةً بالشعور بأنّ ثمة حاجة إلى قطع كهذا في التتابع التاريخي الإسرائيلي ـ الفلسطيني الذي لا يقود إلى أي حل في الأفق المنظور. من شأن مثل هذا القطع أن يستمد قوّته من موروث الماضي لدى كلتا المجموعتين، أن يطلب التوقف وأن يسأل: ما هو جوهر المشروع الصهيوني فيما يتصل بالهوية اليهودية وهل هذا الجوهر مرغوب في نظر أغلبية السكان في هذه البلاد، من اليهود والعرب على حد سواء؟ ينبغي للجواب على هذا السؤال أن يتيح إعادة تصميم الزمن الإسرائيلي من جديد، بحيث يقيم العدالة للأجيال الماضية ويضمن الإصلاح للجيل الحالي.

غبرئيل ابن تسور
غبرئيل ابن تسور هو زميل في كلية تعليم للحاخامية الإسرائيلية في معهد هرطمان وطالب دكتوراة في قسم تاريخ شعب إسرائيل في الجامعة العبرية/ القدس.

تصوير: عوديد أنتمان

Below are share buttons

גליונות אחרונים

לכל הגליונות