Below are share buttons

922 أم 48؟ كَم من الوطن يحتاج العربي؟

عدد 09,

في نص للكاتب اليهودي جان أيمري بعنوان “كم من الوطن يحتاج الإنسان؟”، يظهر في كتابه المعنون بـ “ما وراء الذَّنْب والكفّارة”، يوضّح الكاتب أن المال قد يكون بديلًا مؤقتًا عن الوطن. وفي رأيه، قد يكون هذا أحيانًا على نحو يمكن فيه استبدال المقولة اللاتينية “Ubi bene ibi patria” ـ “حيث يكون جيدًا لك، هناك الوطن”، بمقولة تجعل المال الذي يحمله الإنسان معه وطنًا في حد ذاته ـ Ubi dollar ibi patria ـ “حيث يكون الدولار، هناك الوطن”. ولكن، يُفهَم من هذا النص بوضوح أن الحديث يدور عن بديل باهت وزائل لا يمكنه أن يوفر أمنًا حقيقيًا، كالذي يمكن للوطن أن يوفره. وبالفعل، على امتداد التاريخ كله (حتى يومنا هذا، عمليًا)، كانت ثمة حقب تمتع خلالها اليهود بازدهار اقتصادي في البلدان التي عاشوا فيها، لكنهم لم يشعروا بالأمن بفضله، قَطّ، مثلما يشعرون به في دولة إسرائيل اليوم.

على خلفية ما قيل أعلاه، من المثير للاستغراب إذن أن نكتشف، كل مرة من جديد، أن دولة إسرائيل تعتقد بأن الجمهور العربي في إسرائيل سيتنازل عن تطلعه إلى الأمن الذي يوفّره الوطن، مقابل وعدٍ بالتطوير الاقتصادي. ثمة في جميع هذه المقترحات فرضية خفيّة وجليّة بأن البرامج الغنية بالميزانيات التي ستُغدَق على المواطنين العرب وتقدم حلًا، محددًا وأوليًا، للفجوة الاجتماعية ـ الاقتصادية التي تراكَم تعمقها نتيجة عشرات السنوات من التمييز، قادرةٌ على طمس الشعور بالغربة. لكن، حين يكون المصدر الذي يمسك (بتأخير) المال في يده الأولى المفتوحة على وِسعها، بينما يغلق يده الثانية بقبضة مشدودة تهدد بالنزول على وجود العرب في إسرائيل وهويتهم، فليس بإمكانهم تلقي المال والضربة بعدم اهتمام ولا مبالاة. الحكومة التي تقرّ خطط التطوير الاقتصادي غير المسبوقة للوسط العربي، بينما تشن في المقابل حملة لنزع الشرعية على ظهر “المستفيدين”، لن يكون بإمكانها أبدًا إقامة تحالف سياسي مع الجمهور العربي والفوز بثقته.

في إطار الخطة رقم 922 “للتطوير الاقتصادي لدى الأقليات” التي ستنتهي قريبًا، حظيت الجماهير العربية، أو كان من المفترض، على الأقل، أن تحظى برصد ميزانيات غير مسبوقة تبلغ 15 مليار شيكل من أجل التطوير في مجالات اجتماعية واقتصادية. إلى جانب ذلك، هذه الحكومة التي وضعت نص القرار وصادقت عليه هي نفسها التي دفعت نحو تشريع قانون القومية، ليس من خلال التوافق الواسع ـ كما هو الحال لدى سن قوانين الأساس التي تشكل الفسيفساء الدستوري ـ وإنما بشكل فظ وسط تجاهل تام لتطلعات الجمهور العربي الجماعية. وقد فعلت ذلك من دون أن تذكر في نص القانون الجمهور العربي كصاحب وطن في هذا البلاد، أيضًا، ووسط إصرار مقصود على إسقاط مسألة المساواة وخفض مكانة اللغة العربية من “لغة رسمية” إلى “لغة خاصة”. وهذا في الوقت الذي وجدت فيه الحكومة في ختام العملية التشريعية ـ وهي مرحلة طويلة وجارحة، في حد ذاتها ـ أنها لم تحقق كل ما كانت ترغب فيه، إذ أخفقت في توسيع “قانون لجان القبول” (في البلدات الجماهيرية) واضطرت إلى الاكتفاء “فقط” بـ “تنمية الاستيطان اليهودي” كقيمة قومية، كما نصت عليه المادة السابعة من قانون الأساس ذاته.

إنها الحكومة نفسها، أيضًا، التي زادت ميزانية الثقافة للجمهور العربي، بينما صعّدت في المقابل من حدة الخطاب الذي يشترط رصد الميزانيات ودعم المؤسسات الثقافية، ليس من خلال معايير فنية، وإنما حسب وجهة نظر وزيرة الثقافة آنذاك، ميري ريغف، وقناعاتها والضغوط السياسية التي مورست عليها من جانب أوساط في اليمين. وهي الحكومة نفسها التي حوّلت إلى الجمهور العربي مبالغ مالية لضمان الحد الأدنى من الحياة المحترمة، بينما صوّرته في المقابل بأنه خطر وجوديّ، خلال ثلاث معارك انتخابية متتالية.

منذ السنوات الأولى بعد قيام الدولة، وبعد أن تبين أنه لن يكون من الممكن تنفيذ مهمة إقصاء العرب الذين بقوا ضمن حدودها في نهاية الحرب، إلى خارج حدودها، جرت محاولات متكررة لعقد ما يشبه الصفقة التبادلية غير المكتوبة مع السكان العرب في إسرائيل ـ بسبب طبيعتها المنفصلة عن الواقع والوصائية، التي تذكّر بمبادرة حديثة لحل الصراع ـ يمكن تسميتها هنا، وبإيحاء من دونالد ترامب ، “صفقة القرن الماضي”. في إطار تلك “الصفقة”، ورد عرضٌ بأن تخصص الدولة موارد لتحسين حقوق الفرد، التطوير الاقتصادي والمساواة المدنية بين المواطنين العرب. البلدات العربية سوف تزدهر وتنتعش، جهاز التعليم (بمراقبة لصيقة ومشددة من “جهاز الأمن العام” / الشاباك) سيربي على “الإسرائيلية”، لن يُترك مجال للأصوات “القومية المتطرفة” وسيُعبَّد الطريق أمام الشابات والشبان الذين فازوا بلقب “المتعلمون العرب” نحو الأكاديميا وسوق العمل، وستضمن الخدمات الصحية الرد الملائم للاحتياجات المختلفة وبالإجمال ـ ستتحقق المساواة التامة بين اليهود والعرب على المستوى المدني. ومقابل هذا الخير كله، على الجماهير العربية أن تخلع عنها هويتها الفلسطينية.

لم تسر هذه الصفقة على ما يرام ولم يحالفها النجاح، لأسباب عدة: الأول، أن الدولة لم تنفذ حصتها من الالتزامات في الجزء الأول من الاتفاق الذي صاغته هي، وذلك حين وزعت الخير العام على الجمهور اليهودي المقيم في صهيون، بالأساس. وقد فشلت، بذلك، في تطوير السكان العرب اقتصاديًا وخلقت فجوات اقتصادية غير معقولة بين اليهود والعرب. السبب الثاني، هو الفشل المتواصل في ضمان المساواة المدنية، والمستمر حتى يومنا هذا. السبب الثالث، هو حصة الجمهور العربي الحاسمة في الصفقة، حتى لو نفذت الدولة حصتها كاملة، إذ لم يكن من الصحيح منذ البداية تجاهل هويته الفلسطينية لقاء أية مبالغ مالية، مهما كبرت. صحيح أن الجمهور العربي تبنى انتماءات ومركّبات إضافية أخرى وأضافها إلى هويته، فوجد نفسه أحيانًا على غرار ما عبرت عنه كلمات قصيدة للشاعر نزيه خير ـ ينام في انتمائه الإسرائيلي ويستيقظ أحيانًا بحزنه الفلسطيني، لكنه لم يهجر ارتباطه العميق والأولي بلغته الأمّ، بمشاهد طفولته، بالذاكرة الجماعية التي يحملها معه. ولم يفقد، أيضًا، التضامن مع أشقائه وشقيقاته الخاضعين تحت الحكم العسكري مسلوبي الحقوق. لماذا ظلّ كثيرون من المواطنين العرب في إسرائيل فلسطينيين؟ الجواب المناسب على هذا التساؤل هو في ما كتبه المفكّر الصهيوني إحاد هعام: “سألوا النار لماذا تشتعل! سألوا الشمس لماذا تشرق! سألوا الشجرة لماذا تنمو!…. وهكذا، سألوا اليهودي لماذا هو يهودي! ليس في وسعنا أَلّا نكونَ ما نحن”. كذلك نحن، الفلسطينيين، ليس في وسعنا التخلي عن العناصر الهامة التي تصقلنا، ليس في وسعنا اقتلاعها من قلوبنا. طالما بقي التطوير الاقتصادي بين المواطنين العرب مشروطًا، بطلب أو بإكراه، بالتخلي عن أحد مقوّمات الانتماء الفلسطيني بين أغلبية العرب في دولة إسرائيل، فسيبقى محكومًا بالفشل.

نسرين حداد حاج يحيى
د. نسرين حداد حاج يحيى تحمل لقب الدكتوراة في الفلسفة من جامعة تل أبيب وتشغل منصب رئيسة برنامج المجتمع العربي في “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية”.

تصوير: غلوبس

نسرين حداد – حاج يحيى

מִנְבַּר

في نص للكاتب اليهودي جان أيمري بعنوان “كم من الوطن يحتاج الإنسان؟”، يظهر في كتابه المعنون بـ “ما وراء الذَّنْب والكفّارة”، يوضّح الكاتب أن المال قد يكون بديلًا مؤقتًا عن الوطن. وفي رأيه، قد يكون هذا أحيانًا على نحو يمكن فيه استبدال المقولة اللاتينية “Ubi bene ibi patria” ـ “حيث يكون جيدًا لك، هناك الوطن”، بمقولة تجعل المال الذي يحمله الإنسان معه وطنًا في حد ذاته ـ Ubi dollar ibi patria ـ “حيث يكون الدولار، هناك الوطن”. ولكن، يُفهَم من هذا النص بوضوح أن الحديث يدور عن بديل باهت وزائل لا يمكنه أن يوفر أمنًا حقيقيًا، كالذي يمكن للوطن أن يوفره. وبالفعل، على امتداد التاريخ كله (حتى يومنا هذا، عمليًا)، كانت ثمة حقب تمتع خلالها اليهود بازدهار اقتصادي في البلدان التي عاشوا فيها، لكنهم لم يشعروا بالأمن بفضله، قَطّ، مثلما يشعرون به في دولة إسرائيل اليوم.

على خلفية ما قيل أعلاه، من المثير للاستغراب إذن أن نكتشف، كل مرة من جديد، أن دولة إسرائيل تعتقد بأن الجمهور العربي في إسرائيل سيتنازل عن تطلعه إلى الأمن الذي يوفّره الوطن، مقابل وعدٍ بالتطوير الاقتصادي. ثمة في جميع هذه المقترحات فرضية خفيّة وجليّة بأن البرامج الغنية بالميزانيات التي ستُغدَق على المواطنين العرب وتقدم حلًا، محددًا وأوليًا، للفجوة الاجتماعية ـ الاقتصادية التي تراكَم تعمقها نتيجة عشرات السنوات من التمييز، قادرةٌ على طمس الشعور بالغربة. لكن، حين يكون المصدر الذي يمسك (بتأخير) المال في يده الأولى المفتوحة على وِسعها، بينما يغلق يده الثانية بقبضة مشدودة تهدد بالنزول على وجود العرب في إسرائيل وهويتهم، فليس بإمكانهم تلقي المال والضربة بعدم اهتمام ولا مبالاة. الحكومة التي تقرّ خطط التطوير الاقتصادي غير المسبوقة للوسط العربي، بينما تشن في المقابل حملة لنزع الشرعية على ظهر “المستفيدين”، لن يكون بإمكانها أبدًا إقامة تحالف سياسي مع الجمهور العربي والفوز بثقته.

في إطار الخطة رقم 922 “للتطوير الاقتصادي لدى الأقليات” التي ستنتهي قريبًا، حظيت الجماهير العربية، أو كان من المفترض، على الأقل، أن تحظى برصد ميزانيات غير مسبوقة تبلغ 15 مليار شيكل من أجل التطوير في مجالات اجتماعية واقتصادية. إلى جانب ذلك، هذه الحكومة التي وضعت نص القرار وصادقت عليه هي نفسها التي دفعت نحو تشريع قانون القومية، ليس من خلال التوافق الواسع ـ كما هو الحال لدى سن قوانين الأساس التي تشكل الفسيفساء الدستوري ـ وإنما بشكل فظ وسط تجاهل تام لتطلعات الجمهور العربي الجماعية. وقد فعلت ذلك من دون أن تذكر في نص القانون الجمهور العربي كصاحب وطن في هذا البلاد، أيضًا، ووسط إصرار مقصود على إسقاط مسألة المساواة وخفض مكانة اللغة العربية من “لغة رسمية” إلى “لغة خاصة”. وهذا في الوقت الذي وجدت فيه الحكومة في ختام العملية التشريعية ـ وهي مرحلة طويلة وجارحة، في حد ذاتها ـ أنها لم تحقق كل ما كانت ترغب فيه، إذ أخفقت في توسيع “قانون لجان القبول” (في البلدات الجماهيرية) واضطرت إلى الاكتفاء “فقط” بـ “تنمية الاستيطان اليهودي” كقيمة قومية، كما نصت عليه المادة السابعة من قانون الأساس ذاته.

إنها الحكومة نفسها، أيضًا، التي زادت ميزانية الثقافة للجمهور العربي، بينما صعّدت في المقابل من حدة الخطاب الذي يشترط رصد الميزانيات ودعم المؤسسات الثقافية، ليس من خلال معايير فنية، وإنما حسب وجهة نظر وزيرة الثقافة آنذاك، ميري ريغف، وقناعاتها والضغوط السياسية التي مورست عليها من جانب أوساط في اليمين. وهي الحكومة نفسها التي حوّلت إلى الجمهور العربي مبالغ مالية لضمان الحد الأدنى من الحياة المحترمة، بينما صوّرته في المقابل بأنه خطر وجوديّ، خلال ثلاث معارك انتخابية متتالية.

منذ السنوات الأولى بعد قيام الدولة، وبعد أن تبين أنه لن يكون من الممكن تنفيذ مهمة إقصاء العرب الذين بقوا ضمن حدودها في نهاية الحرب، إلى خارج حدودها، جرت محاولات متكررة لعقد ما يشبه الصفقة التبادلية غير المكتوبة مع السكان العرب في إسرائيل ـ بسبب طبيعتها المنفصلة عن الواقع والوصائية، التي تذكّر بمبادرة حديثة لحل الصراع ـ يمكن تسميتها هنا، وبإيحاء من دونالد ترامب ، “صفقة القرن الماضي”. في إطار تلك “الصفقة”، ورد عرضٌ بأن تخصص الدولة موارد لتحسين حقوق الفرد، التطوير الاقتصادي والمساواة المدنية بين المواطنين العرب. البلدات العربية سوف تزدهر وتنتعش، جهاز التعليم (بمراقبة لصيقة ومشددة من “جهاز الأمن العام” / الشاباك) سيربي على “الإسرائيلية”، لن يُترك مجال للأصوات “القومية المتطرفة” وسيُعبَّد الطريق أمام الشابات والشبان الذين فازوا بلقب “المتعلمون العرب” نحو الأكاديميا وسوق العمل، وستضمن الخدمات الصحية الرد الملائم للاحتياجات المختلفة وبالإجمال ـ ستتحقق المساواة التامة بين اليهود والعرب على المستوى المدني. ومقابل هذا الخير كله، على الجماهير العربية أن تخلع عنها هويتها الفلسطينية.

لم تسر هذه الصفقة على ما يرام ولم يحالفها النجاح، لأسباب عدة: الأول، أن الدولة لم تنفذ حصتها من الالتزامات في الجزء الأول من الاتفاق الذي صاغته هي، وذلك حين وزعت الخير العام على الجمهور اليهودي المقيم في صهيون، بالأساس. وقد فشلت، بذلك، في تطوير السكان العرب اقتصاديًا وخلقت فجوات اقتصادية غير معقولة بين اليهود والعرب. السبب الثاني، هو الفشل المتواصل في ضمان المساواة المدنية، والمستمر حتى يومنا هذا. السبب الثالث، هو حصة الجمهور العربي الحاسمة في الصفقة، حتى لو نفذت الدولة حصتها كاملة، إذ لم يكن من الصحيح منذ البداية تجاهل هويته الفلسطينية لقاء أية مبالغ مالية، مهما كبرت. صحيح أن الجمهور العربي تبنى انتماءات ومركّبات إضافية أخرى وأضافها إلى هويته، فوجد نفسه أحيانًا على غرار ما عبرت عنه كلمات قصيدة للشاعر نزيه خير ـ ينام في انتمائه الإسرائيلي ويستيقظ أحيانًا بحزنه الفلسطيني، لكنه لم يهجر ارتباطه العميق والأولي بلغته الأمّ، بمشاهد طفولته، بالذاكرة الجماعية التي يحملها معه. ولم يفقد، أيضًا، التضامن مع أشقائه وشقيقاته الخاضعين تحت الحكم العسكري مسلوبي الحقوق. لماذا ظلّ كثيرون من المواطنين العرب في إسرائيل فلسطينيين؟ الجواب المناسب على هذا التساؤل هو في ما كتبه المفكّر الصهيوني إحاد هعام: “سألوا النار لماذا تشتعل! سألوا الشمس لماذا تشرق! سألوا الشجرة لماذا تنمو!…. وهكذا، سألوا اليهودي لماذا هو يهودي! ليس في وسعنا أَلّا نكونَ ما نحن”. كذلك نحن، الفلسطينيين، ليس في وسعنا التخلي عن العناصر الهامة التي تصقلنا، ليس في وسعنا اقتلاعها من قلوبنا. طالما بقي التطوير الاقتصادي بين المواطنين العرب مشروطًا، بطلب أو بإكراه، بالتخلي عن أحد مقوّمات الانتماء الفلسطيني بين أغلبية العرب في دولة إسرائيل، فسيبقى محكومًا بالفشل.

نسرين حداد حاج يحيى
د. نسرين حداد حاج يحيى تحمل لقب الدكتوراة في الفلسفة من جامعة تل أبيب وتشغل منصب رئيسة برنامج المجتمع العربي في “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية”.

تصوير: غلوبس

Below are share buttons

גליונות אחרונים

לכל הגליונות