ד"ר יוני מנדל
Below are share buttons

حول العربية والعرب في إسرائيل

عدد 02,

يعتبر تعلّم لغة أجنبية، أو لغة ثانية، إلى حدّ ما مؤشّر على موقف الدولة ونظرتها إلى “الآخر” الذي نتعلّم لغته. إنَّ لغة الآخر حين يُنظر إليها بوصفها ثروة ثقافية كبيرة، وذات قيمة اقتصادية عظيمة، أو أداة للحراك الاجتماعي أو السياسي، يتم تدريسها لساعات طويلة نسبيًا، وتُستثمر فيها موارد كبيرة – من طرف الجهاز وكذلك من طرف الطلاب – كما أنها تُمنح بعض المزايا للمعلّمين الذين يعرفون بصورة جيدة الثقافة واللغة على مستوياتها اللغوية. هذه هي قصة اللغة الإنجليزية في إسرائيل، وفي سياقات سياسية أخرى هي قصة اللغتين الفرنسية أو الإسبانية في دول مختلفة في إفريقيا على مدى القرن الأخير. ولكن في المقابل، فإنَّ لغة الآخر قد تكون لغة ذلك الطرف الذي تخشاه الدولة، “لغة العدو”. حينئذ يصبح تعلّم اللغة الأجنبية أكثر اغترابًا، كما أن الدافع لتعلّمها يصبح أداتيًا بشكل تام تقريبًا، خلافًا للدوافع الأخرى التي تقوم على أسس مختلفة. تتذكّر أنيتا فبلانكو، نائبة رئيس الجمعية الأمريكية للسانيات التطبيقية، درسها الأول في الإنجليزية في الاتحاد السوفييتي في سبعينيات القرن العشرين. وهي تتذكّر جيدًا اللحظة التي صرَّحت فيها المعلّمة “اليوم هو يوم هامٌ في حياتكم. اليوم تبدءون بتعلّم الإنجليزية. سيتضح أنَّ هذا التعليم ضروريٌّ عندما تندلع الحرب مع القوى الإمبريالية العظمى، الولايات المتحدة وبريطانيا، وعندما تحتاجون لفكّ لغز وترجمة الرسائل السرية باللغة الإنجليزية”.[1]

اعتقد أنَّ اللغة العربية التي يتم تعلّمها في مدارس الوسط اليهودي في إسرائيل تقع في مكان قريب جدًا من توصيف تعليم اللغة الإنجليزية في مدارس الاتحاد السوفييتي سابقًا. ولكن معاينة المنهاج الرسمي لوزارة التربية والتعليم والأهداف المُعلنة لتعليم العربية في المجتمع الإسرائيلي لا تظهر أية علاقة بينها وبين الحرب، والجيش، والصراع، والاستخبارات أو الأمن. وبدلاً من ذلك، فإنّ الرؤية العامة للمنهاج التعليمي تستهل بتصوّر عام فيما يلي نصّه:

إنَّ اللغة العربية هي اللغة الرسمية الثانية في دولة إسرائيل، وهي لغة ينطق بها ثلاثمائة مليون إنسان. إنَّ اللغة العربية الفصحى هي لغة الثقافة لجميع الناطقين بالعربية، المسلمين، والمسيحيّين والدروز على حدٍّ سواء، وهي لغة الكتاب المقدّس والصلاة عند كافة المسلمين في أرجاء العالم (نحو مليار وثلاثمائة مليون نسمة). ولهذا هنالك أهمية كبرى لمعرفة اللغة العربية في دولة إسرائيل. وانطلاقًا من معرفة أهمية هذه اللغة فقد تقرّر في العام 1995 جعل تعليم اللغة العربية لغة أجنبية ثانية إلزاميًا في الصفوف السابعة حتى العاشرة.[2]

سوف أقوم بتفسير الفجوة القائمة بين طرحي وبين التصوّر العام لوزارة التربية والتعليم من خلال اعتماد تحليل أساسي لهذا النص القصير. من المثير أن نكتشف أنه بإمكاننا أن نعثر، حتى في مثل هذا النص، على إشارات للفجوة القائمة بين مكانة اللغة الرسمية والثابتة والإيجابية للعربية وبين عناصر أخرى، مخفية وسياسية، أكثر من ذلك بكثير. تمت الإشارة في تصوّر وزارة التربية والتعليم إلى أن اللغة العربية لغة ينطق بها “ثلاثمائة مليون إنسان”، ولكن الوزارة اختارت عدم الإشارة إلى أنَّ مئات الملايين هذه تعيش في الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي تقع إسرائيل في قلبها ولها مع هذه المنطقة علاقة صراع معقّدة. بالإضافة لذلك لم يتم توضيح كون اللغة العربية “لغة الكتاب المقدّس” لأكثر من مليار مسلم في أنحاء العالم، ولم تكن هنالك إشارة إلى أنَّ السكّان المسلمين هم الغالبية الساحقة من بين سكّان منطقة الشرق الأوسط. تتواصل الضبابية بعد ذلك أيضًا عندما تمت الإشارة إلى أنَّ تعليم العربية يعتبر “إلزاميًا كلغة أجنبية ثانية في الصفوف السابعة حتى العاشرة”. هذه الجملة تتناقض على نحو ما مع ما ذُكر سابقًا: بدايةً، اللغة العربية التي تمت الإشارة إليها كلغة رسمية في السطر الأول، ولكن في موقع آخر وبعد أربعة أسطر فيما بعد لا كلغة أولى، وليس كلغة ثانية، بل كلغة أجنبية ثانية؛ ثانيًا، تمت الإشارة إلى أن تعلّم العربية إلزامي في الصفوف السابعة حتى العاشرة، ولكن في الواقع فإنّه يسمح للطلاب في المدارس الإعدادية أن يختاروا إحدى اللغتين الفرنسية أو العربية، وهذا الأمر يجعل العربية في واقع الحال لغة اختيارية. علاوةً على ذلك، فإنَّ الأغلبية الساحقة من الطلاب الذين يختارون تعلّم اللغة العربية في الصفوف السابعة يفعلون الأمر ذاته في الصفوف الثامنة والتاسعة، ولكن لا يختارون تعلّم العربية عندما يكونون في الصف العاشر، وهذا الأمر يجعل تعلّم العربية في الصف العاشر يتحوّل من كونه “إلزاميًا” إلى “اختياريًا”.

وعليه، هنالك فجوة واضحة للعيان بين مكانة اللغة العربية “الرسمية” من جهة وكلغة “أجنبية” من جهة أخرى، وبين كونها لغة الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي تقع فيها إسرائيل ولديها فيها صراع محتدم مع جاراتها من الدول الناطقة بالعربية، وبين كونها لغة محايدة ظاهريًا ينطق بها “ثلاثمائة مليون إنسان” وبين كونها لغة “إلزامية” ولغة “اختيارية”. أضف إلى ذلك، هنالك فجوة بين الظاهر- أي التصوّر الرسمي لوزارة التربية والتعليم، وبين المخفي أو الكامن ما بين السطور: أعداد كبيرة من الذين يتعلّمون العربية في المدارس اليهودية – وخاصة في المرحلة الثانوية وبمستوى خمس وحدات تعليمية – لا يفعلون ذلك من منطلق احترام المكانة الرسمية للغة العربية، وكذلك ليس لغرض التعلّم والتعرّف على الكتاب المقدّس للمسلمين البتة، بل من أجل التجنّد لسلاح الاستخبارات. وهناك سوف يستخدمون اللغة العربية لأغراض أكثر ما تكون بعيدة – جغرافيًا ورمزيًا واجتماعيًا وسياسيًا – عن حياة الثلاثمائة مليون شخص الذين يتكلّمون العربية ويعيشون في منطقة الشرق الأوسط.[3]

هذه الفجوة التي قمت بدراستها خلال دراستي لشهادة الدكتوراه من خلال التمعّن في وثائق متوافرة في عدة أرشيفات، منها أرشيف الحركة الصهيونية، وأرشيف الدولة وأرشيف الجيش، هو الذي حدا بي في نهاية المطاف إلى موضعة اللغة العربية على المحور المتخيَّل الذي رسمته. بعيدًا من طريقة تعلّم اللغة الإنجليزية ومن مكانتها في إسرائيل، وقريبًا نسبيًا للطريقة التي بموجبها تمّ تعليم اللغة الإنجليزية في الاتحاد السوفييتي عند فبلانكو. إنَّ الأمر المثير هو أنه نظرًا لعدة أسباب، وعلى الأخص لهيمنة العديد من التّوترات في إسرائيل، مثل الخطاب المدني من جهة والممارسات العسكرية من جهة أخرى، والاستناد إلى القيم الديمقراطية-التعدّدية من ناحية وكذلك التفسير اليهودي-القومي-الإثنوقراطي من ناحية أخرى، وكذلك نظرًا لموقع إسرائيل ومكانتها في المنطقة، فقد تحوّلت العربية إلى لغة “ليست هنا وليست هناك”. في ظل الصراع المتواصل وبسبب سياسات إسرائيل فإنَّ اللغة العربية موجودة في خضم اضطرابات سياسية تضعها في خانة المكانة “الرسمية”، على الرغم من عدم وجود موطئ قدم لها تقريبًا بين صفوف المواطنين اليهود، وكلغة حاضرة-غائبة تعتبر لغة “إلزامية” في وزارة التربية والتعليم ولكن كلغة “اختيارية” لدى الطلاب، كلغة “مدنية” بشكل نظري ولكن كلغة “أمنية” في الواقع.

أعتقد أن هذه التّناقضات الثلاث تتماشى بصورة جيدة، مع نظرة الدولة وموقفها من السكّان العرب في إسرائيل. فمن ناحية فإنَّ هؤلاء المواطنين “متساوي الحقوق”، ولكنهم يعانون من التمييز الصارخ من ناحية أخرى، هم مواطنون حاضرون بصورة فعلية في الدولة، ولكنّهم غائبون بصورة دائمة من مراكز صنع القرار ومن النخبة الحاكمة، مجموعة سكّانية تعدادها أكثر من مليون نسمة يتم اعتبارهم “مواطنين” من ناحية، و”تهديدًا أمنيًا” من الناحية الأخرى.[4] وهم المواطنون الذين قال عنهم عزمي بشارة إنَّ بين هويتهم الفلسطينية وبين حياتهم في إسرائيل يشعرون وكأنهم “ليسوا على خط التماس الذي بينهما، بل ليسوا هنا وليسوا هناك”.[5]

إنَّ الأرضية غير المستقرة التي تهتز تحت أسس اللغة العربية في إسرائيل شبيهة جدًا إذًا بالأرضية التي تهتز تحت أرجل المواطنين الفلسطينيّين. بدون القيام بعمل جدّي وحقيقي من قِبل أولئك الذين يخشون من هذه الاهتزازات فلن يتم تعزيز مكانة العربية ووضع حدّ للتمييز تجاه مواطني إسرائيل العرب فحسب، بل سيسحب البساط من تحت اللغة ومن تحت الناطقين بها معًا.

يوني مندل هو مدير المشاريع في الإطار الشرق – أوسطي في معهد فان لير في القدس وباحث في قسم السياسة والحكم في جامعة بن غوريون في النقب.

[1] يُنظر P Pavlenka, A. (2003). “‘Language of the Enemy’: Foreign Language Education and National Identity”, International Journal of Bilingual Education and Bilingualism 6(5), 313-331.

[2] משרד החינוך (2011). לשון ערבית לכיתות ז’–י”ב לבתי הספר העבריים, משרד החינוך: האגף לתכנון ולפיתוח תכניות לימודים – http://cms.education.gov.il/EducationCMS/Units/Tochniyot_Limudim/LashonA…

[3] يُنظر، على سبيل المثال، دراسة هيم-يونس وملكا 2006. وقد جاء هناك: “الدافعية لتعلّم العربية: إنَّ الأسباب الأكثر تأثيرًا على قرار الطلاب لتعلّم العربية حتى مرحلة البجروت هي الرغبة في التجنّد في أجهزة المخابرات […]” (ص 17): אדוה הים-יונס ושירה מלכא (2006). לקראת פיתוח תכנית לימודים בערבית לחטיבת הביניים ולחטיבה העליונה במגזר היהודי: מחקר הערכה, משרד החינוך ומכון הנרייטה סאלד, ירושלים.

[4] يُنظر، على سبيل المثال، مقالة عنباري 2006: ענברי (2006). “63% من اليهود: عرب إسرائيل – تهديد قومي”، معاريف (صحيفة)، 22 آذار 2006 (http://www.nrg.co.il/online/1/ART1/063/680.html

[5] بشارة 1992: עזמי בשארה (1992). “בין מרחב למקום”, סטודיו 37, 8

يوني مندل

מִנְבַּר

يعتبر تعلّم لغة أجنبية، أو لغة ثانية، إلى حدّ ما مؤشّر على موقف الدولة ونظرتها إلى “الآخر” الذي نتعلّم لغته. إنَّ لغة الآخر حين يُنظر إليها بوصفها ثروة ثقافية كبيرة، وذات قيمة اقتصادية عظيمة، أو أداة للحراك الاجتماعي أو السياسي، يتم تدريسها لساعات طويلة نسبيًا، وتُستثمر فيها موارد كبيرة – من طرف الجهاز وكذلك من طرف الطلاب – كما أنها تُمنح بعض المزايا للمعلّمين الذين يعرفون بصورة جيدة الثقافة واللغة على مستوياتها اللغوية. هذه هي قصة اللغة الإنجليزية في إسرائيل، وفي سياقات سياسية أخرى هي قصة اللغتين الفرنسية أو الإسبانية في دول مختلفة في إفريقيا على مدى القرن الأخير. ولكن في المقابل، فإنَّ لغة الآخر قد تكون لغة ذلك الطرف الذي تخشاه الدولة، “لغة العدو”. حينئذ يصبح تعلّم اللغة الأجنبية أكثر اغترابًا، كما أن الدافع لتعلّمها يصبح أداتيًا بشكل تام تقريبًا، خلافًا للدوافع الأخرى التي تقوم على أسس مختلفة. تتذكّر أنيتا فبلانكو، نائبة رئيس الجمعية الأمريكية للسانيات التطبيقية، درسها الأول في الإنجليزية في الاتحاد السوفييتي في سبعينيات القرن العشرين. وهي تتذكّر جيدًا اللحظة التي صرَّحت فيها المعلّمة “اليوم هو يوم هامٌ في حياتكم. اليوم تبدءون بتعلّم الإنجليزية. سيتضح أنَّ هذا التعليم ضروريٌّ عندما تندلع الحرب مع القوى الإمبريالية العظمى، الولايات المتحدة وبريطانيا، وعندما تحتاجون لفكّ لغز وترجمة الرسائل السرية باللغة الإنجليزية”.[1]

اعتقد أنَّ اللغة العربية التي يتم تعلّمها في مدارس الوسط اليهودي في إسرائيل تقع في مكان قريب جدًا من توصيف تعليم اللغة الإنجليزية في مدارس الاتحاد السوفييتي سابقًا. ولكن معاينة المنهاج الرسمي لوزارة التربية والتعليم والأهداف المُعلنة لتعليم العربية في المجتمع الإسرائيلي لا تظهر أية علاقة بينها وبين الحرب، والجيش، والصراع، والاستخبارات أو الأمن. وبدلاً من ذلك، فإنّ الرؤية العامة للمنهاج التعليمي تستهل بتصوّر عام فيما يلي نصّه:

إنَّ اللغة العربية هي اللغة الرسمية الثانية في دولة إسرائيل، وهي لغة ينطق بها ثلاثمائة مليون إنسان. إنَّ اللغة العربية الفصحى هي لغة الثقافة لجميع الناطقين بالعربية، المسلمين، والمسيحيّين والدروز على حدٍّ سواء، وهي لغة الكتاب المقدّس والصلاة عند كافة المسلمين في أرجاء العالم (نحو مليار وثلاثمائة مليون نسمة). ولهذا هنالك أهمية كبرى لمعرفة اللغة العربية في دولة إسرائيل. وانطلاقًا من معرفة أهمية هذه اللغة فقد تقرّر في العام 1995 جعل تعليم اللغة العربية لغة أجنبية ثانية إلزاميًا في الصفوف السابعة حتى العاشرة.[2]

سوف أقوم بتفسير الفجوة القائمة بين طرحي وبين التصوّر العام لوزارة التربية والتعليم من خلال اعتماد تحليل أساسي لهذا النص القصير. من المثير أن نكتشف أنه بإمكاننا أن نعثر، حتى في مثل هذا النص، على إشارات للفجوة القائمة بين مكانة اللغة الرسمية والثابتة والإيجابية للعربية وبين عناصر أخرى، مخفية وسياسية، أكثر من ذلك بكثير. تمت الإشارة في تصوّر وزارة التربية والتعليم إلى أن اللغة العربية لغة ينطق بها “ثلاثمائة مليون إنسان”، ولكن الوزارة اختارت عدم الإشارة إلى أنَّ مئات الملايين هذه تعيش في الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي تقع إسرائيل في قلبها ولها مع هذه المنطقة علاقة صراع معقّدة. بالإضافة لذلك لم يتم توضيح كون اللغة العربية “لغة الكتاب المقدّس” لأكثر من مليار مسلم في أنحاء العالم، ولم تكن هنالك إشارة إلى أنَّ السكّان المسلمين هم الغالبية الساحقة من بين سكّان منطقة الشرق الأوسط. تتواصل الضبابية بعد ذلك أيضًا عندما تمت الإشارة إلى أنَّ تعليم العربية يعتبر “إلزاميًا كلغة أجنبية ثانية في الصفوف السابعة حتى العاشرة”. هذه الجملة تتناقض على نحو ما مع ما ذُكر سابقًا: بدايةً، اللغة العربية التي تمت الإشارة إليها كلغة رسمية في السطر الأول، ولكن في موقع آخر وبعد أربعة أسطر فيما بعد لا كلغة أولى، وليس كلغة ثانية، بل كلغة أجنبية ثانية؛ ثانيًا، تمت الإشارة إلى أن تعلّم العربية إلزامي في الصفوف السابعة حتى العاشرة، ولكن في الواقع فإنّه يسمح للطلاب في المدارس الإعدادية أن يختاروا إحدى اللغتين الفرنسية أو العربية، وهذا الأمر يجعل العربية في واقع الحال لغة اختيارية. علاوةً على ذلك، فإنَّ الأغلبية الساحقة من الطلاب الذين يختارون تعلّم اللغة العربية في الصفوف السابعة يفعلون الأمر ذاته في الصفوف الثامنة والتاسعة، ولكن لا يختارون تعلّم العربية عندما يكونون في الصف العاشر، وهذا الأمر يجعل تعلّم العربية في الصف العاشر يتحوّل من كونه “إلزاميًا” إلى “اختياريًا”.

وعليه، هنالك فجوة واضحة للعيان بين مكانة اللغة العربية “الرسمية” من جهة وكلغة “أجنبية” من جهة أخرى، وبين كونها لغة الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي تقع فيها إسرائيل ولديها فيها صراع محتدم مع جاراتها من الدول الناطقة بالعربية، وبين كونها لغة محايدة ظاهريًا ينطق بها “ثلاثمائة مليون إنسان” وبين كونها لغة “إلزامية” ولغة “اختيارية”. أضف إلى ذلك، هنالك فجوة بين الظاهر- أي التصوّر الرسمي لوزارة التربية والتعليم، وبين المخفي أو الكامن ما بين السطور: أعداد كبيرة من الذين يتعلّمون العربية في المدارس اليهودية – وخاصة في المرحلة الثانوية وبمستوى خمس وحدات تعليمية – لا يفعلون ذلك من منطلق احترام المكانة الرسمية للغة العربية، وكذلك ليس لغرض التعلّم والتعرّف على الكتاب المقدّس للمسلمين البتة، بل من أجل التجنّد لسلاح الاستخبارات. وهناك سوف يستخدمون اللغة العربية لأغراض أكثر ما تكون بعيدة – جغرافيًا ورمزيًا واجتماعيًا وسياسيًا – عن حياة الثلاثمائة مليون شخص الذين يتكلّمون العربية ويعيشون في منطقة الشرق الأوسط.[3]

هذه الفجوة التي قمت بدراستها خلال دراستي لشهادة الدكتوراه من خلال التمعّن في وثائق متوافرة في عدة أرشيفات، منها أرشيف الحركة الصهيونية، وأرشيف الدولة وأرشيف الجيش، هو الذي حدا بي في نهاية المطاف إلى موضعة اللغة العربية على المحور المتخيَّل الذي رسمته. بعيدًا من طريقة تعلّم اللغة الإنجليزية ومن مكانتها في إسرائيل، وقريبًا نسبيًا للطريقة التي بموجبها تمّ تعليم اللغة الإنجليزية في الاتحاد السوفييتي عند فبلانكو. إنَّ الأمر المثير هو أنه نظرًا لعدة أسباب، وعلى الأخص لهيمنة العديد من التّوترات في إسرائيل، مثل الخطاب المدني من جهة والممارسات العسكرية من جهة أخرى، والاستناد إلى القيم الديمقراطية-التعدّدية من ناحية وكذلك التفسير اليهودي-القومي-الإثنوقراطي من ناحية أخرى، وكذلك نظرًا لموقع إسرائيل ومكانتها في المنطقة، فقد تحوّلت العربية إلى لغة “ليست هنا وليست هناك”. في ظل الصراع المتواصل وبسبب سياسات إسرائيل فإنَّ اللغة العربية موجودة في خضم اضطرابات سياسية تضعها في خانة المكانة “الرسمية”، على الرغم من عدم وجود موطئ قدم لها تقريبًا بين صفوف المواطنين اليهود، وكلغة حاضرة-غائبة تعتبر لغة “إلزامية” في وزارة التربية والتعليم ولكن كلغة “اختيارية” لدى الطلاب، كلغة “مدنية” بشكل نظري ولكن كلغة “أمنية” في الواقع.

أعتقد أن هذه التّناقضات الثلاث تتماشى بصورة جيدة، مع نظرة الدولة وموقفها من السكّان العرب في إسرائيل. فمن ناحية فإنَّ هؤلاء المواطنين “متساوي الحقوق”، ولكنهم يعانون من التمييز الصارخ من ناحية أخرى، هم مواطنون حاضرون بصورة فعلية في الدولة، ولكنّهم غائبون بصورة دائمة من مراكز صنع القرار ومن النخبة الحاكمة، مجموعة سكّانية تعدادها أكثر من مليون نسمة يتم اعتبارهم “مواطنين” من ناحية، و”تهديدًا أمنيًا” من الناحية الأخرى.[4] وهم المواطنون الذين قال عنهم عزمي بشارة إنَّ بين هويتهم الفلسطينية وبين حياتهم في إسرائيل يشعرون وكأنهم “ليسوا على خط التماس الذي بينهما، بل ليسوا هنا وليسوا هناك”.[5]

إنَّ الأرضية غير المستقرة التي تهتز تحت أسس اللغة العربية في إسرائيل شبيهة جدًا إذًا بالأرضية التي تهتز تحت أرجل المواطنين الفلسطينيّين. بدون القيام بعمل جدّي وحقيقي من قِبل أولئك الذين يخشون من هذه الاهتزازات فلن يتم تعزيز مكانة العربية ووضع حدّ للتمييز تجاه مواطني إسرائيل العرب فحسب، بل سيسحب البساط من تحت اللغة ومن تحت الناطقين بها معًا.

يوني مندل هو مدير المشاريع في الإطار الشرق – أوسطي في معهد فان لير في القدس وباحث في قسم السياسة والحكم في جامعة بن غوريون في النقب.

[1] يُنظر P Pavlenka, A. (2003). “‘Language of the Enemy’: Foreign Language Education and National Identity”, International Journal of Bilingual Education and Bilingualism 6(5), 313-331.

[2] משרד החינוך (2011). לשון ערבית לכיתות ז’–י”ב לבתי הספר העבריים, משרד החינוך: האגף לתכנון ולפיתוח תכניות לימודים – http://cms.education.gov.il/EducationCMS/Units/Tochniyot_Limudim/LashonA…

[3] يُنظر، على سبيل المثال، دراسة هيم-يونس وملكا 2006. وقد جاء هناك: “الدافعية لتعلّم العربية: إنَّ الأسباب الأكثر تأثيرًا على قرار الطلاب لتعلّم العربية حتى مرحلة البجروت هي الرغبة في التجنّد في أجهزة المخابرات […]” (ص 17): אדוה הים-יונס ושירה מלכא (2006). לקראת פיתוח תכנית לימודים בערבית לחטיבת הביניים ולחטיבה העליונה במגזר היהודי: מחקר הערכה, משרד החינוך ומכון הנרייטה סאלד, ירושלים.

[4] يُنظر، على سبيل المثال، مقالة عنباري 2006: ענברי (2006). “63% من اليهود: عرب إسرائيل – تهديد قومي”، معاريف (صحيفة)، 22 آذار 2006 (http://www.nrg.co.il/online/1/ART1/063/680.html

[5] بشارة 1992: עזמי בשארה (1992). “בין מרחב למקום”, סטודיו 37, 8

Below are share buttons

גליונות אחרונים

לכל הגליונות