פרופ' מוחמד אמארה.
Below are share buttons

تدريس اللغة العربية بين الطلاب اليهود في إسرائيل: من البعد الأمني إلى البعد المدني

عدد 02,

تترك الصراعات السياسية آثارها على النماذج اللغوية-الاجتماعية، وفي حالات معينة تصبح اللغة جزءًا لا يتجزّأ من الصراع. إنَّ اللغة ليست معزولة أو منسلخة عن الواقع، بل تستجيب للتغيّرات الطارئة عليه وتتفاعل معها. تشكّل اللغة العربية بين اليهود في إسرائيل أرضية خصبة لدراسة انعكاس الصراعات السياسية-الاجتماعية الداخلية منها والخارجية. سأتناول في معرض هذه المقالة مسألة تدريس اللغة العربية بين اليهود في إسرائيل كحالة دراسية.

1.يشكّل المجتمع العربي نحو خمس سكّان الدولة، ويساهم تعلّم اللغة العربية في تعزيز العلاقات بين المجتمعين اليهودي والعربي، ما يؤدّي إلى إثراء المعرفة بين الشعبين؛
2.تشكّل إسرائيل جزيرة لغوية في محيط تهيمن عليه اللغة العربية في كافة مناحي الحياة، فالعربية هي لغة المنطقة، ولكي تتحوّل إسرائيل إلى جزء من المنطقة يتعيّن على سكّانها معرفة اللغة العربية؛
3.ينحدر نحو نصف السكّان اليهود في إسرائيل من أصول شرقية، وذلك يزيد من الحاجة إلى المحافظة على العربية كلغة التراث والثقافة لهذه الفئة السكانية؛
4.يعاني المجتمع الإسرائيلي من شروخ وانقسامات عديدة، ويعتبر الاستقطاب القومي الأكثر عمقًا، ولكي لا يشكّل هذا الشرخ تهديدًا لاستقرار النظام في الدولة، هنالك حاجة ملحّة لاستخدام مناهج متعدّدة، بما فيها اللغة العربية والتي بوسعها المساهمة في التخفيف من حدّة الشرخ القومي في الدولة.
5.يُنظر بأهمية بالغة إلى التخطيط المستقبلي، ومن أجل الوصول إلى منطقة يسودها السلام، يتعيّن على إسرائيل أن تكون مستعدّة للتعامل مع الفرص الاقتصادية والتواصل الثقافي بعد إحلال السلام في المنطقة.
6.تعتبر العربية لغة عالمية، وهي واحدة من اللغات العظيمة في تاريخ الحضارة الإنسانية، وقد كانت فيما مضى وعلى مدار مئات السنين لغة المعرفة والعلوم، وعُرِّب الكثير من الإنتاج العلمي والفلسفي الإنساني القديم.

ثار تدريس اللغة العربية للطلاب اليهود نقاشًا كبيرًا في أوساط اليهود منذ مطلع القرن العشرين، فقد كان هنالك مَن يعارض هذا الأمر لاعتقادهم أنَّ ذلك سيساهم في تصدّع الهوية اليهودية وتمشرقها؛ ومن الجهة الأخرى هنالك من اعتقد بأهمية تعلّمها بغية تأقلم المجتمع اليهودي حديث النشأة مع ثقافة المنطقة.[2]

وقد استمر هذا النقاش بعد قيام الدولة، ولكن الأجواء العامة، وخاصة هيمنة الصراع العربي-الإسرائيلي عليها، لم تساعد على تدريس اللغة العربية في المدارس اليهودية، إضافة إلى مساهمة وجود لغات أجنبية منافسة مثل الإنجليزية والفرنسية في تهميش اللغة العربية ومسألة تدريسها في المدارس اليهودية.[3] لقد جرى تهميش اللغة العربية في المدارس اليهودية لأنَّ عملية بناء الأمة والهوية الجماعية اليهودية، وفق رؤية المؤسّسة الحاكمة، كان يتطلّب ذلك. وعليه، كان على العرب، وكجزء من بناء الهوية اليهودية الجماعية، وفق هذه الرؤية، أن يشكّلوا “الآخر”، العدو لا الصديق، ولهذا السبب أضحى تدريس اللغة العربية وتعلّمها لأغراض مدنية وثقافية عثرة أمام عملية بناء الهوية الجماعية اليهودية الجديدة.

أنشأت وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية الكثير من اللجان التي فحصت موضوع تدريس اللغة العربية في المدارس اليهودية.[4] ويمكن القول إنَّ نتائج عمل هذه اللجان، إضافة إلى عمل الأجهزة المهنية المختلفة ذات الصلة، تشير إلى أربعة عوامل أثَّرت ولا تزال على مسألة تدريس اللغة العربية في المدارس اليهودية:

أولاً: النقاش المحتدم بين رجال التربية واللغويّين حول أية لغة عربية من الأفضل تدريسها، العامية أم الفصحى، ولا يزال هذا النقاش محتدمًا إلى يومنا؛

ثانيًا: مكانة اللغة العربية وصورتها السلبية في وعي الطلاب والمجتمع اليهودي ومواقفهم تجاهها؛

ثالثًا: الصراع العربي-الإسرائيلي وتأثيره على تعلّم اللغة العربية؛

رابعًا: الهوّة الكبيرة القائمة بين مكانة اللغة العربية الرسمية من جهة، والتعبير عن هذه المكانة في الحيّز العام من جهة أخرى، وفي الحالتين فإنَّ وضع اللغة العربية ضعيف جدًا.

يمكن القول إنَّ هدف المؤسّسة الإسرائيلية من تدريس اللغة العربية ينبع بالأساس من اعتبارات أمنية وليس مدنية أو ثقافية، ليس للتعرّف على ثقافة الآخر، بل للتعرُّف على العدو. قال مفتّش اللغة العربية صراحة في سنة 1961 إنَّ دوافع تدريس اللغة في المدارس اليهودية نابعة من دوافع أمنية بالأساس.[5] ولهذا السبب فقد دُرِّست العربية بشكل محدود جدًا في المدارس اليهودية، كما أنَّ تدريسها كان اختياريًا حتى سنة 1986، والمفارقة في الأمر هو أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تحديدًا هي التي لعبت الدور الرئيس في الدفع باتجاه ضرورة تدريس اللغة العربية في المدارس اليهودية لحاجتها للكوادر المهنية التي تقرأ وتفهم اللغة العربية. أما وزارة التربية والتعليم فإنّها لم تولِ أهمية إلى تدريس اللغة العربية في المدارس اليهودية ولا إلى تدريسها بصورة مناسبة وإيجابيّة.[6] وعليه، فإنه لولا تدخّل الجيش والمؤسّسة الأمنية من خلال تقديمها اقتراحات عمل لتلك الفئة التي تتقن اللغة العربية، ولولا الضغط الذي تمارسه على المؤسَّسات التعليمية المختلفة، لكان حال اللغة العربية أسوأ بكثير مما هو عليه اليوم.[7]

إن الفرق بين الاعتبارات الأمنية وتلك المدنية في تدريس اللغة العربية لا يؤثّر على مضامين التدريس فحسب، بل يؤثّر على تصوّر اللغة بالأساس، إذ يتم تصوير اللغة من المنظور الأمني بوصفها لغة أداتية، لغة العدو، ولغة للتعرّف على الآخر بغية هزيمته، بينما يتم تصويرها من المنظور المدني بوصفها لغة ثقافية، وللتعرّف على الآخر بغية التثاقف الحضاري معه.

بالمجمل، ليس هنالك مناخ مدني في إسرائيل يتيح المجال للحديث عن العرب أو الثقافة العربية أو حتى اللغة العربية بصورة إيجابية، بل يهيمن المنظور الأمني على هذا المناخ والخطاب والتوجّهات، الأمر الذي ينعكس سلبًا كذلك على تصوّر وتوجّه الطلاب اليهود. لهذا فإنَّ مساعي وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية من أجل تحسين تدريس اللغة العربية في المدارس اليهودية، عبر استغلال الأدوات الإدارية أو إدخال إصلاحات بنيوية أو تنظيمية، لن تجدي نفعًا في ظلّ هيمنة المناخ المعادي السائد للثقافة العربية. فالمسألة ليست مجرد إصلاحات بنيوية أو إدخال لوائح جديدة، بل يتعلّق الأمر بالثقافة الأمنية التي تسيطر على جلّ تناول المجتمع الإسرائيلي برمّته مع اللغة العربية.

ولسبب أن اللغة العربية تعتبر لغة الأمن، لا لغة تثاقف وتخاطب مع الجيران، فإنَّ كثيرًا من اليهود الذين يجيدونها قد تعلّموها لأغراض أمنية حصرًا. أما مسألة تدريسها في المدارس اليهودية، تشير النتائج إلى بيانات غير مرضية بالمطلق. فالكفاءة اللغوية بعد عدة سنين محدودة جدًا، ولا يستطيع المتعلّم القيام بالوظائف الأساسية للغة. إنَّ دافعية الطلاب المتدنّية لتعلّمها تمنح قيمة متدنّية للغة العربية بين اليهود، وذلك بسبب الصراع العربي-الإسرائيلي وعدائية الصهيونية للعرب.[8]

عزّزت معاهد التعليم العالي الإسرائيلية منحى تشكيل تصوّر مفاده أن اللغة العربية ميّتة أسوة بلغات أخرى كاللغة اللاتينية. فنرى أن اللغة العربية تُدرّس في هذه المعاهد بالعبرية استنادًا إلى الادّعاء القائل بأنَّ اللغة العربية تُدرّس لدوافع المعرفة العلمية والأبحاث فقط. وقد أكّد هذا المنحى، رئيس قسم اللغة العربية سابقًا في جامعة بار إيلان، د. إليعزر شلوسبيرغ، الذي لا يعتقد أن هنالك أية مشكلة في تعليم اللغة العربية في الجامعات الإسرائيلية، ويضيف قائلاً:

إنَّ الطلاب الذين لغتهم الأم هي اللغة العبرية غير قادرين بأيّ صورة التعلّم باللغة العربية، نظرًا لأنهم يجدون صعوبة في ذلك. ليس لدينا هدف إعداد ناطقين باللغة العربية، بل منح أدوات أساسية للتعامل مع اللغة العربية، وفهم ومعرفة الثقافة العربية، والتاريخ والديانة الإسلامية.[9]

يمكن دحض هذه الادعاءات بسهولة لأنه لا يتم تعليم اللغة الإنجليزية واللغات الأجنبية الأخرى باللغة العبرية.[10] باعتقادي تكمن المشكلة في التعامل المستهتر مع اللغة العربية، كانعكاس مباشر للتعامل المستهتر مع العرب في الدولة والمنطقة. تقع إسرائيل جغرافيًا في الشرق الأوسط، ولكن يعتقد سكّانها على أنهم جزءٌ من الغرب وثقافته ويتصرّفون على هذا النحو.

وتتّضح سلبية التعامل مع اللغة العربية وبوصفها لغة الأمن في حقيقة تجاهل الوجود العربي وعدم احترامه واحترام الثقافة العربية في هذه المنطقة. كان يفترض على اليهود القادمين إلى هذه المنطقة العمل من أجل أن تكون العربية جزءًا من واقعهم وثقافتهم وحتى جزءًا من هويتهم الشرق أوسطية، كما تقول هالبرن وبحقّ:

إذا رغبت إسرائيل فعلاً أن تنغرس في السياق الشرق أوسطي، فإنَّ معرفة العربية هو مطلب واجب تحقيقه. اعترف الصهاينة بهذه الحقيقة في الماضي، ومهما كانت هذه الحقيقة صعبة، فإنَّ عليهم أن يعترفوا بها اليوم.[11]

يعتبر إبرام اتفاقيات السلام نقطة البداية لنزع فتيل الصراع والانطلاق نحو الحلول السياسية. أما السلام الحقيقي فيبدأ عند معرفة الآخر بشكل حقيقي وجدّي واحترام لغته وثقافته. وهنا تبدأ المرحلة الثانية نحو تحقيق السلام، تلك المرحلة التي تلامس النسيج والعصب الثقافي للأمم. فمعرفة واحترام اللغة العربية وثقافتها من طرف اليهود في هذه الديار يعتبر جزءًا من المصالحة التاريخية وضمان بقائهم في هذه المنطقة، أما النظر إليها عبر منظور الضروريات الأمنية فلا يمكن له أن يزيل حالة الاغتراب القائمة.

البروفيسور محمد أمارة، رئيس برنامج الماجستير في التدريس والتعلم- اللغات، ورئيس قسم اللغة الانجليزية، الكلية الأكاديمية بيت بيرل، ومدير وحدة الأبحاث في مركز دراسات.

[1] لمزيد من التفاصيل، يُنظر: מוחמד אמארה, פיסל עזאיזה, רחל הרץ-לזרוביץ, ואורה מור-זומרפלד, 2008. הוראת השפה הערבית כשפה זרה בבתי הספר היהודיים בישראל: אתגרים והמלצות, חיפה: אוניברסיטת חיפה, המרכז היהודי-ערבי; שלמה אלון, 2008. “הוראת השפה הערבית בבתי ספר יהודיים בחטיבת הביניים ובתיכוניים, ככלי לפתוח עמדות חיוביות ולראייה סובלנית וכאמצעי להפחתתם של סטריאוטיפים כלפי האוכלוסייה והתרבות הערבית”, עבודת מוסמך, בית הספר לחינוך, המסלול לפיתוח מערכות חינוך, אוניברסיטת חיפה; ברנרד ספולסקי, אילנה שוהמי וסמדר דוניצה-שמידט, 1995. חינוך לשוני בישראל: פרופיל הוראת השפה הערבית בבתי ספר עבריים, רמת גן: המכון לחקר מדיניות לשונית, אוניברסיטת בר אילן; אריה לוין, 1992. “על הוראת הערבית בבתי הספר העבריים”, ביטאון למורה לערבית, 13(2), עמ’ 90–92.

[2] Rachel Elbaum-Dror, 1986. Hebrew Education in Palestine, Jerusalem: Yad Ben-Zvi

[3] Bernard Spolsky and Elana Shohamy, 1999. The Languages of Israel: Policy, Ideology and Practice, Clevedon: Multilingual Matters

[4] يُنظر ملخص توصيات اللجان لدى: יוסף יונאי, 1992. ערבית בבתי ספר עבריים, ירושלים: משרד החינוך והתרבות; אמארה ואחרים.

[5] יוסף יונאי, 1992. ערבית בבתי ספר עבריים, ירושלים: משרד החינוך והתרבות.

[6] Bernard Spolsky and Elana Shohamy, 1999. The Languages of Israel: Policy, Ideology and Practice, Clevedon: Multilingual Matters

[7] يُنظر، Yonatan Mendel, 2011. “Arabic Studies in Irsaeli-Jewish Society: In the Shadow of the Political Conflict,” Ph.D. Dissertation, Queens’ College, University of Cambridge; Spolsky and Shohamy 1999.

[8] يُنظر، على سبيل المثال، Roberta Kraemer, 1990. “Social Psychological Factors Related to the Study of Arabic among Israeli High School Students,” Ph.D. Dissertation, School of Education, Tel Aviv University; Eliezer Ben-Rafael and Hezi Brosh (1991). “A Sociological Study of Second Language Diffusion: The Obstacles to Arabic Teaching in the Israeli School,” Language Planning and Language Problems 15(1), pp. 1–23; Roberta Kraemer and Elite Olshtain, 1994. “The Social Context of Second Language Learning in Israel Schools,” Israel Social Science Research 9(1-2), pp. 161–180.

[9] يُنظر، העיתון שקורה עכשיו, גיליון 2, 13.6.06, עמ’ 3.

[10] Heba Hamarshy, 2008. “Arabic Language Instruction in Israeli Universities: Policy and Practice,” unpublished MA thesis, English department, bar-Ilan University

[11] Liora R. Halprin, 2006. “Orienting Language: Reflections on the Study of Arabic in the Yishuv,” The Jewish Quarterly Review 96(4), p. 489

تترك الصراعات السياسية آثارها على النماذج اللغوية-الاجتماعية، وفي حالات معينة تصبح اللغة جزءًا لا يتجزّأ من الصراع. إنَّ اللغة ليست معزولة أو منسلخة عن الواقع، بل تستجيب للتغيّرات الطارئة عليه وتتفاعل معها. تشكّل اللغة العربية بين اليهود في إسرائيل أرضية خصبة لدراسة انعكاس الصراعات السياسية-الاجتماعية الداخلية منها والخارجية. سأتناول في معرض هذه المقالة مسألة تدريس اللغة العربية بين اليهود في إسرائيل كحالة دراسية.

1.يشكّل المجتمع العربي نحو خمس سكّان الدولة، ويساهم تعلّم اللغة العربية في تعزيز العلاقات بين المجتمعين اليهودي والعربي، ما يؤدّي إلى إثراء المعرفة بين الشعبين؛
2.تشكّل إسرائيل جزيرة لغوية في محيط تهيمن عليه اللغة العربية في كافة مناحي الحياة، فالعربية هي لغة المنطقة، ولكي تتحوّل إسرائيل إلى جزء من المنطقة يتعيّن على سكّانها معرفة اللغة العربية؛
3.ينحدر نحو نصف السكّان اليهود في إسرائيل من أصول شرقية، وذلك يزيد من الحاجة إلى المحافظة على العربية كلغة التراث والثقافة لهذه الفئة السكانية؛
4.يعاني المجتمع الإسرائيلي من شروخ وانقسامات عديدة، ويعتبر الاستقطاب القومي الأكثر عمقًا، ولكي لا يشكّل هذا الشرخ تهديدًا لاستقرار النظام في الدولة، هنالك حاجة ملحّة لاستخدام مناهج متعدّدة، بما فيها اللغة العربية والتي بوسعها المساهمة في التخفيف من حدّة الشرخ القومي في الدولة.
5.يُنظر بأهمية بالغة إلى التخطيط المستقبلي، ومن أجل الوصول إلى منطقة يسودها السلام، يتعيّن على إسرائيل أن تكون مستعدّة للتعامل مع الفرص الاقتصادية والتواصل الثقافي بعد إحلال السلام في المنطقة.
6.تعتبر العربية لغة عالمية، وهي واحدة من اللغات العظيمة في تاريخ الحضارة الإنسانية، وقد كانت فيما مضى وعلى مدار مئات السنين لغة المعرفة والعلوم، وعُرِّب الكثير من الإنتاج العلمي والفلسفي الإنساني القديم.

ثار تدريس اللغة العربية للطلاب اليهود نقاشًا كبيرًا في أوساط اليهود منذ مطلع القرن العشرين، فقد كان هنالك مَن يعارض هذا الأمر لاعتقادهم أنَّ ذلك سيساهم في تصدّع الهوية اليهودية وتمشرقها؛ ومن الجهة الأخرى هنالك من اعتقد بأهمية تعلّمها بغية تأقلم المجتمع اليهودي حديث النشأة مع ثقافة المنطقة.[2]

وقد استمر هذا النقاش بعد قيام الدولة، ولكن الأجواء العامة، وخاصة هيمنة الصراع العربي-الإسرائيلي عليها، لم تساعد على تدريس اللغة العربية في المدارس اليهودية، إضافة إلى مساهمة وجود لغات أجنبية منافسة مثل الإنجليزية والفرنسية في تهميش اللغة العربية ومسألة تدريسها في المدارس اليهودية.[3] لقد جرى تهميش اللغة العربية في المدارس اليهودية لأنَّ عملية بناء الأمة والهوية الجماعية اليهودية، وفق رؤية المؤسّسة الحاكمة، كان يتطلّب ذلك. وعليه، كان على العرب، وكجزء من بناء الهوية اليهودية الجماعية، وفق هذه الرؤية، أن يشكّلوا “الآخر”، العدو لا الصديق، ولهذا السبب أضحى تدريس اللغة العربية وتعلّمها لأغراض مدنية وثقافية عثرة أمام عملية بناء الهوية الجماعية اليهودية الجديدة.

أنشأت وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية الكثير من اللجان التي فحصت موضوع تدريس اللغة العربية في المدارس اليهودية.[4] ويمكن القول إنَّ نتائج عمل هذه اللجان، إضافة إلى عمل الأجهزة المهنية المختلفة ذات الصلة، تشير إلى أربعة عوامل أثَّرت ولا تزال على مسألة تدريس اللغة العربية في المدارس اليهودية:

أولاً: النقاش المحتدم بين رجال التربية واللغويّين حول أية لغة عربية من الأفضل تدريسها، العامية أم الفصحى، ولا يزال هذا النقاش محتدمًا إلى يومنا؛

ثانيًا: مكانة اللغة العربية وصورتها السلبية في وعي الطلاب والمجتمع اليهودي ومواقفهم تجاهها؛

ثالثًا: الصراع العربي-الإسرائيلي وتأثيره على تعلّم اللغة العربية؛

رابعًا: الهوّة الكبيرة القائمة بين مكانة اللغة العربية الرسمية من جهة، والتعبير عن هذه المكانة في الحيّز العام من جهة أخرى، وفي الحالتين فإنَّ وضع اللغة العربية ضعيف جدًا.

يمكن القول إنَّ هدف المؤسّسة الإسرائيلية من تدريس اللغة العربية ينبع بالأساس من اعتبارات أمنية وليس مدنية أو ثقافية، ليس للتعرّف على ثقافة الآخر، بل للتعرُّف على العدو. قال مفتّش اللغة العربية صراحة في سنة 1961 إنَّ دوافع تدريس اللغة في المدارس اليهودية نابعة من دوافع أمنية بالأساس.[5] ولهذا السبب فقد دُرِّست العربية بشكل محدود جدًا في المدارس اليهودية، كما أنَّ تدريسها كان اختياريًا حتى سنة 1986، والمفارقة في الأمر هو أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تحديدًا هي التي لعبت الدور الرئيس في الدفع باتجاه ضرورة تدريس اللغة العربية في المدارس اليهودية لحاجتها للكوادر المهنية التي تقرأ وتفهم اللغة العربية. أما وزارة التربية والتعليم فإنّها لم تولِ أهمية إلى تدريس اللغة العربية في المدارس اليهودية ولا إلى تدريسها بصورة مناسبة وإيجابيّة.[6] وعليه، فإنه لولا تدخّل الجيش والمؤسّسة الأمنية من خلال تقديمها اقتراحات عمل لتلك الفئة التي تتقن اللغة العربية، ولولا الضغط الذي تمارسه على المؤسَّسات التعليمية المختلفة، لكان حال اللغة العربية أسوأ بكثير مما هو عليه اليوم.[7]

إن الفرق بين الاعتبارات الأمنية وتلك المدنية في تدريس اللغة العربية لا يؤثّر على مضامين التدريس فحسب، بل يؤثّر على تصوّر اللغة بالأساس، إذ يتم تصوير اللغة من المنظور الأمني بوصفها لغة أداتية، لغة العدو، ولغة للتعرّف على الآخر بغية هزيمته، بينما يتم تصويرها من المنظور المدني بوصفها لغة ثقافية، وللتعرّف على الآخر بغية التثاقف الحضاري معه.

بالمجمل، ليس هنالك مناخ مدني في إسرائيل يتيح المجال للحديث عن العرب أو الثقافة العربية أو حتى اللغة العربية بصورة إيجابية، بل يهيمن المنظور الأمني على هذا المناخ والخطاب والتوجّهات، الأمر الذي ينعكس سلبًا كذلك على تصوّر وتوجّه الطلاب اليهود. لهذا فإنَّ مساعي وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية من أجل تحسين تدريس اللغة العربية في المدارس اليهودية، عبر استغلال الأدوات الإدارية أو إدخال إصلاحات بنيوية أو تنظيمية، لن تجدي نفعًا في ظلّ هيمنة المناخ المعادي السائد للثقافة العربية. فالمسألة ليست مجرد إصلاحات بنيوية أو إدخال لوائح جديدة، بل يتعلّق الأمر بالثقافة الأمنية التي تسيطر على جلّ تناول المجتمع الإسرائيلي برمّته مع اللغة العربية.

ولسبب أن اللغة العربية تعتبر لغة الأمن، لا لغة تثاقف وتخاطب مع الجيران، فإنَّ كثيرًا من اليهود الذين يجيدونها قد تعلّموها لأغراض أمنية حصرًا. أما مسألة تدريسها في المدارس اليهودية، تشير النتائج إلى بيانات غير مرضية بالمطلق. فالكفاءة اللغوية بعد عدة سنين محدودة جدًا، ولا يستطيع المتعلّم القيام بالوظائف الأساسية للغة. إنَّ دافعية الطلاب المتدنّية لتعلّمها تمنح قيمة متدنّية للغة العربية بين اليهود، وذلك بسبب الصراع العربي-الإسرائيلي وعدائية الصهيونية للعرب.[8]

عزّزت معاهد التعليم العالي الإسرائيلية منحى تشكيل تصوّر مفاده أن اللغة العربية ميّتة أسوة بلغات أخرى كاللغة اللاتينية. فنرى أن اللغة العربية تُدرّس في هذه المعاهد بالعبرية استنادًا إلى الادّعاء القائل بأنَّ اللغة العربية تُدرّس لدوافع المعرفة العلمية والأبحاث فقط. وقد أكّد هذا المنحى، رئيس قسم اللغة العربية سابقًا في جامعة بار إيلان، د. إليعزر شلوسبيرغ، الذي لا يعتقد أن هنالك أية مشكلة في تعليم اللغة العربية في الجامعات الإسرائيلية، ويضيف قائلاً:

إنَّ الطلاب الذين لغتهم الأم هي اللغة العبرية غير قادرين بأيّ صورة التعلّم باللغة العربية، نظرًا لأنهم يجدون صعوبة في ذلك. ليس لدينا هدف إعداد ناطقين باللغة العربية، بل منح أدوات أساسية للتعامل مع اللغة العربية، وفهم ومعرفة الثقافة العربية، والتاريخ والديانة الإسلامية.[9]

يمكن دحض هذه الادعاءات بسهولة لأنه لا يتم تعليم اللغة الإنجليزية واللغات الأجنبية الأخرى باللغة العبرية.[10] باعتقادي تكمن المشكلة في التعامل المستهتر مع اللغة العربية، كانعكاس مباشر للتعامل المستهتر مع العرب في الدولة والمنطقة. تقع إسرائيل جغرافيًا في الشرق الأوسط، ولكن يعتقد سكّانها على أنهم جزءٌ من الغرب وثقافته ويتصرّفون على هذا النحو.

وتتّضح سلبية التعامل مع اللغة العربية وبوصفها لغة الأمن في حقيقة تجاهل الوجود العربي وعدم احترامه واحترام الثقافة العربية في هذه المنطقة. كان يفترض على اليهود القادمين إلى هذه المنطقة العمل من أجل أن تكون العربية جزءًا من واقعهم وثقافتهم وحتى جزءًا من هويتهم الشرق أوسطية، كما تقول هالبرن وبحقّ:

إذا رغبت إسرائيل فعلاً أن تنغرس في السياق الشرق أوسطي، فإنَّ معرفة العربية هو مطلب واجب تحقيقه. اعترف الصهاينة بهذه الحقيقة في الماضي، ومهما كانت هذه الحقيقة صعبة، فإنَّ عليهم أن يعترفوا بها اليوم.[11]

يعتبر إبرام اتفاقيات السلام نقطة البداية لنزع فتيل الصراع والانطلاق نحو الحلول السياسية. أما السلام الحقيقي فيبدأ عند معرفة الآخر بشكل حقيقي وجدّي واحترام لغته وثقافته. وهنا تبدأ المرحلة الثانية نحو تحقيق السلام، تلك المرحلة التي تلامس النسيج والعصب الثقافي للأمم. فمعرفة واحترام اللغة العربية وثقافتها من طرف اليهود في هذه الديار يعتبر جزءًا من المصالحة التاريخية وضمان بقائهم في هذه المنطقة، أما النظر إليها عبر منظور الضروريات الأمنية فلا يمكن له أن يزيل حالة الاغتراب القائمة.

البروفيسور محمد أمارة، رئيس برنامج الماجستير في التدريس والتعلم- اللغات، ورئيس قسم اللغة الانجليزية، الكلية الأكاديمية بيت بيرل، ومدير وحدة الأبحاث في مركز دراسات.

[1] لمزيد من التفاصيل، يُنظر: מוחמד אמארה, פיסל עזאיזה, רחל הרץ-לזרוביץ, ואורה מור-זומרפלד, 2008. הוראת השפה הערבית כשפה זרה בבתי הספר היהודיים בישראל: אתגרים והמלצות, חיפה: אוניברסיטת חיפה, המרכז היהודי-ערבי; שלמה אלון, 2008. “הוראת השפה הערבית בבתי ספר יהודיים בחטיבת הביניים ובתיכוניים, ככלי לפתוח עמדות חיוביות ולראייה סובלנית וכאמצעי להפחתתם של סטריאוטיפים כלפי האוכלוסייה והתרבות הערבית”, עבודת מוסמך, בית הספר לחינוך, המסלול לפיתוח מערכות חינוך, אוניברסיטת חיפה; ברנרד ספולסקי, אילנה שוהמי וסמדר דוניצה-שמידט, 1995. חינוך לשוני בישראל: פרופיל הוראת השפה הערבית בבתי ספר עבריים, רמת גן: המכון לחקר מדיניות לשונית, אוניברסיטת בר אילן; אריה לוין, 1992. “על הוראת הערבית בבתי הספר העבריים”, ביטאון למורה לערבית, 13(2), עמ’ 90–92.

[2] Rachel Elbaum-Dror, 1986. Hebrew Education in Palestine, Jerusalem: Yad Ben-Zvi

[3] Bernard Spolsky and Elana Shohamy, 1999. The Languages of Israel: Policy, Ideology and Practice, Clevedon: Multilingual Matters

[4] يُنظر ملخص توصيات اللجان لدى: יוסף יונאי, 1992. ערבית בבתי ספר עבריים, ירושלים: משרד החינוך והתרבות; אמארה ואחרים.

[5] יוסף יונאי, 1992. ערבית בבתי ספר עבריים, ירושלים: משרד החינוך והתרבות.

[6] Bernard Spolsky and Elana Shohamy, 1999. The Languages of Israel: Policy, Ideology and Practice, Clevedon: Multilingual Matters

[7] يُنظر، Yonatan Mendel, 2011. “Arabic Studies in Irsaeli-Jewish Society: In the Shadow of the Political Conflict,” Ph.D. Dissertation, Queens’ College, University of Cambridge; Spolsky and Shohamy 1999.

[8] يُنظر، على سبيل المثال، Roberta Kraemer, 1990. “Social Psychological Factors Related to the Study of Arabic among Israeli High School Students,” Ph.D. Dissertation, School of Education, Tel Aviv University; Eliezer Ben-Rafael and Hezi Brosh (1991). “A Sociological Study of Second Language Diffusion: The Obstacles to Arabic Teaching in the Israeli School,” Language Planning and Language Problems 15(1), pp. 1–23; Roberta Kraemer and Elite Olshtain, 1994. “The Social Context of Second Language Learning in Israel Schools,” Israel Social Science Research 9(1-2), pp. 161–180.

[9] يُنظر، העיתון שקורה עכשיו, גיליון 2, 13.6.06, עמ’ 3.

[10] Heba Hamarshy, 2008. “Arabic Language Instruction in Israeli Universities: Policy and Practice,” unpublished MA thesis, English department, bar-Ilan University

[11] Liora R. Halprin, 2006. “Orienting Language: Reflections on the Study of Arabic in the Yishuv,” The Jewish Quarterly Review 96(4), p. 489

Below are share buttons

גליונות אחרונים

לכל הגליונות