מרזוק אלחלבי
Below are share buttons

“صبرا”- عندما يتّجه النصّ والمعرفة صوب التغيير، ويخلقان حيّزًا آمنًا للكلام!

عدد 06,

حول كتاب د. طال بن تسفي، صبرا – تمثيلات النكبة في الفن الفلسطيني في اسرائيل، اصدار ريزلينغ، 2014

حتّى في الأزمنة العصيبة التي تتميّز بالتحريض الأرعن ضدّ الفلسطينيّين بخاصّة، وضدّ العرب عمومًا، وبالعنصريّة، ونزعات التعصّب القوميّ اليهوديّة التي تلامس الفاشيّة، حتّى في أزمنة كهذه يصدر كتاب مشوّق ومثير يحمل عنوانًا مباشرًا لا لبس فيه: “صبرا- تمثيلات النكبة في الفنّ الفلسطينيّ في إسرائيل”. وعلى الرغم من الأجواء المسمومة والمكارثيّة التي تبثّها وزيرة الثقافة من جهة، وحركة “إم ترتسو” (“إذا أردتم”)[1] من الجهة المقابلة، فثمّة من المبدعين من يطرح رؤيته في الحيّز العامّ بنبرة واضحة وبهامة منتصبة. هذا ما تفعله طال بن تسفي في كتابها المذكور، وهو ثمرة عملها الدؤوب لعقدين من الزمن في الحقل الفنّيّ، واطّلاعها الواسع والمباشر حول الفنّ الفلسطينيّ في إسرائيل، وتجربتها العريقة في العمل كأمينة معارض لخيرة الفنّانين الفلسطينيّين، ودراستها الأكاديميّة وتخصّصها في المجال.

عنوان الكتاب لوحده يكفي كي يثير حفيظة أصحاب النزعات القوميّة المتطرّفة من اليهود الذين يبحثون عن الصدام والخصومة، ويحاولون دبّ الذعر وإسكات الأصوات المعارِضة من خلال التنكُّر التامّ للرواية الفلسطينيّة التي تُخصّص لها بن تسفي كتابها بأكمله. ربّما على ضوء نشر أقوالنا هذه الأقوال، سينهض “خيرة” العنصريّين ويطالبون بمحاسبة “مفعال هَبايس” الذي موّل إصدار الكتاب، وقد يلحقون اسم بن تسفي في قائمة [المُخْبِرين] “المزروعين” بما يليق بحملتهم الإعلاميّة المقزّزة. وقد تعلو أصوات العنصريّين الجدد المعارِضة: كيف تتجرّأ هذه على التفوّه بكلمة “نكبة”، وهي حدث لم يحصل قَطّ؟

الكتاب بفصوله الخمسة وخاتمته يشكّل عملًا مشوّقًا لمبدعة متضلّعة في كلّ خبايا ومشارب الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ الذي ينتج في فلسطين التاريخيّة وخارجها. سنقسّم المعارف الضخمة التي تحتويها صفحات هذا الكتاب (287 صفحة) إلى أربعة أقسام أساسيّة: الأوّل هو الدراية في التاريخ الفلسطيني؛ والثاني هو الدراية في الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ على امتداد عقوده الستّة؛ والثالث هو المعارف الفنّيّة النظريّة؛ والرابع هو الاطّلاع العميق على الخطاب الفلسطينيّ الذي يشكّل منبعًا للفنّانين وللأعمال التي أعمَلت فيها المؤلفة تحليلًا وتمحيصًا. هذه المعارف المتكاملة حِيكت بيد فنّان، ومنحتنا تجربة قراءة وتعلُّم استثنائيّة. وهنا أجد لزامًا عليّ الإطراء لبن تسفي، وذلك أنّني لم أعثر على أيّ كتاب باللغة العربيّة يستحضر حكاية الفنّ الفلسطينيّ كما يفعل كتابها، لا بين آلاف الكتب التي تضمّها مكتبتي ولا في أيّ مكتبة فلسطينيّة.

تتناول بن تسفي الفنّ الفلسطينيّ من خلال ثلاثة أجيال من الفنّانين: جيل النكبة الذي يمثّله الفنّان الحيفاويّ عبد عابدي الذي يواصل العمل والإبداع في الأستوديو القائم في حيفا؛ والجيل الأوسط، ويمثّله وليد أبو شقرة، وأسد عزّي، وأسامة سعيد، وعصام أبو شقرة، وإبراهيم نوباني، والجيل الثالث الذي يمثّله حنّا فرح، وسامي بخاري، وأحلام شبلي، ورائدة أدون، وإسكندر قبطي، وربيع بخاري، وأنيسة أشقر، ورأفت خطّاب، وضرار سليمان. وقد أورد الكتاب أنّ قائمة الجيل الثالث قد اختيرت لغرض النقاش من بين أكثر من 300 فنّان شابّ يعملون اليوم في إسرائيل، وهي تمثّل على نحوٍ مقْنع الموضوعَ الذي سعت الكاتبة إلى طرحه في كتابها. ومن جهتي أضيف أنّ العشرات من الفنّانين الفلسطينيّين الشبّان ينشطون اليوم في مجالات إبداعيّة متنوّعة داخل الحيّز العامّ الإسرائيليّ، ويواصلون إثراء الثقافة المحلّيّة وفرض التحدّيات عليها.

سامي بخاري، بغسوس، 2002، تصوير: تسفيكا روجر، اوتوبيا
جميع الحقوق محفوظة لبيت الكرمة، المركز العربي اليهودي، حيفا

تباينت تمثيلات النكبة في الفنّ الفلسطينيّ من جيل لآخر، وبين فنّان يعيش في وطنه وآخر يعيش في المنفى، وبين فنّان يرزح تحت الاحتلال وآخر يعيش في الغربة الفلسطينيّة. عثرت بن تسفي على فروق شتّى في تمثيل النكبة بين من درسوا الفنّ في المؤسّسات الأكاديميّة الإسرائيليّة من درسوا في خارج البلاد، ولم تتجاهل كذلك نقاط التّماسّ والحوارات التي يُجريها الفنّ الفلسطينيّ في إسرائيل مع الفنّ الإسرائيليّ بعامّة، حتّى من “الهامشيّ” الذي يتبوّأه الفنّانون الفلسطينيّون داخل الفنّ المعياريّ في إسرائيل. وبحسب المؤلّفة، لا يمكن تجاهل صوتهم ولونهم داخل حقل الفنون الإسرائيليّ على الرغم من هذه المكانة الهامشيّة. مع مرور السنين، ينجح المزيد من الفنّانين الفلسطينيّين في إسرائيل في تحطيم “السقف الزجاجيّ”، ويتمكّنون من إحضار أعمالهم الفنّيّة إلى قلب المدينة اليهوديّة. هذا ما قامت به ميرفت عيسى في أعمالها الطينيّة، وما قام به صالح القرّا الذي ظهر على حين غرّة ولم يتوقّف منذئذ على طرح المفاجآت، وفارس حمدان وسواهم. بعض هؤلاء تمّكنوا من الوصول إلى دول أخرى كذلك، نحو شريف واكد، ومنار الزعبي وغيرهما.

تخلع الكاتبة على عبد عابدي لقب “أبو الفنّ الفلسطيني في إسرائيل”. وربّما تكون محقّة في ذلك، وذلك أنّه الوحيد من أبناء جيله الذي واصل العمل وتمثيل الرواية الفلسطينيّة بشتّى مواضيعها. عبد الله (عوفاديا) القَرا، على سبيل المثال، اتّخذ منعطفًا حادًّا وانصهر في المشهد الفنّيّ الإسرائيليّ عبر الانتماء إلى تيّار فنّيّ وهُويّة فنّيّة فردانيّة، ونأى بنفسه عن الانتماء القوميّ. وبحسب بن تفسي، فقد سار فنّانو الجيل الثاني على خُطا عبد عابدي من حيث الانشغال بالنكبة، واتّجهوا في دروب مختلفة، وعلى الرغم من عملهم داخل الحقل الفنّيّ الإسرائيليّ واستخدامهم لأدواته المختلفة، فإنّهم بقوا ينضوون تحت تعريف الفنّانين الفلسطينيّين. في المقابل، وسّع الجيل الثالث من الفنّانين الفلسطينيّين استخدام وسائل التعبير الفنّيّة، واستخدموا التصوير والفيديو آرت، والفنّ الأدائيّ. ثمّة فرق آخر بين فنّاني الجيل الثالث والجيلين اللذين سبقاه، يتمثّل في اللغة الفنّيّة التي قاموا باستخدامها إذ إنّ انشغالهم في موضوعة النكبة أصبح “انشغالًا في التمثيل العينيّ للفضاء الجغرافيّ الفلسطينيّ بعد النكبة، نحو المدن العربيّة يافا وحيفا وعكّا، بالإضافة إلى مواقع ترتبط باللجوء، إلى جانب الصبّار والقرى المهجّرة والمدمّرة” (ص 12). في أعمال الفيديو آرت لهذا الجيل، تبرز على نحوٍ خاصّ ظاهرة توظيف اللغة العربيّة كعلامات تعريفيّة للمكان والحيّز من خلال تحدّي العلامات التعريفيّة العبريّة التي توضع في المكان (أي فلسطين التاريخيّة، الوطن) منذ النكبة في العام 1948.

من خلال تحليل نشاطات الفنّانين الذين تقوم بمراجعة أعمالهم في هذا الكتاب، تحدّد الكاتبة أنّ الفنّ الفلسطينيّ الذي أُنتِج في إسرائيل منذ النكبة -وعلى امتداد ستّين عامًا- هو فنّ ذو خصوصيّة، ويتحدّث بلغة رمزيّة وتمثيليّة متفرّدة. بحسب الكاتبة، هذا التفرّد يتجسّد – في ما يتجسّد- في استخدام الفنّانين لـِ “وسائل وأدوات فنّيّة تتجاوز حدود الحقول القوميّة واضحة المعالم” (ص 13)، ومردّ ذلك في رأيها إلى انتمائهم لثلاثة حقول فنّيّة مختلفة وهي: 1. حقل النشاط الفلسطينيّ المتخيَّل للحيّز برمّته. 2. حقل الفنّ الإسرائيليّ المعياريّ ذو الأهواء والنزعات الغربيّة. 3. حقل الفنّ الفلسطينيّ في إسرائيل الذي يشكّل الحقلان المذكوران مصدرَيْ إلهامِهِ (ص 13). ثمّة تفرُّد آخر يتمثّل في حقيقة أنّ الأعمال الفنّيّة تحاول التواصل مع قطاعات متنوّعة: الإسرائيليّين، والفلسطينيّين في إسرائيل، والفلسطينيّين والعالم العربيّ بعامّة، وصولًا إلى العالم برمّته. هذا النشاط الفنّيّ يتغذّى من حقول ثقافيّة فلسطينيّة أخرى، نحو الشعر، والنثر، والمسرح وغيرها، عبر أعمال أُنتِجت داخل إسرائيل وخارج حدودها. الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ هو عضو حيّ في جسد الثقافة الفلسطينيّة بعامّة، وموضوعتها الرئيسيّة هي النكبة والرواية الفلسطينيّة.

يظهر على امتداد الكتاب أنّ بن تسفي تتناول الموضوع المطروح بألفة وحميميّة، ومن خلال الرغبة الصادقة في التصالح مع الشعب الفلسطينيّ والاعتراف بنكبته الوطنيّة. في كتابتها نبرة واضحة بأنّها عاقدة العزم على توظيف معارفها في مجال عملها، وفي الكتابة، والنظريّة والتطبيق بغية [المساهمة في] خلق تغيير في الصراع نحو التسوية والمصالحة، وهي تكتب كناشطة مطّلعة على ما يدور في المجتمع، وكأمينة معارض فنّيّة، وكأكاديميّة قامت من قبل بتأليف عدد من الأعمال حول الفنّ الفلسطينيّ وحول فنّانين فلسطينيّين. يتّضح كذلك أنّ علاقات صداقة وعمل تربط بين بن تسفي وبعض الفنّانين الذين تكتب عنهم، ومع بعض مَن لم تتناولهم في كتابها. على الرغم من ذلك، لا نجدها تتملّق لهذا الفنان أو ذاك، بل تتحدّث بلغة موضوعيّة تستحقّ التقدير والثناء. علاوة على ذلك، يخلو الكتاب من لغة الوصاية أو التنميط التي نعثر عليها -في المعتاد- بعامّة عندما يقوم مؤلّف يهوديّ بالكتابة حول شؤون فلسطينيّة؛ على سبيل المثال عندما يطرح الكُتّاب اليهود أنّ العمل الأدبيّ الفلسطينيّ هو أدب مجنّد وشعاراتيّ وتغيب عنه الأبعاد الجماليّة. تتصرّف بن تسفي في هذا الكتاب بأمانة تجاه مهنتها كأمينة معارض، وكمؤلّفة، ومحاضرة في المؤسّسة الأكاديميّة، وتعرض ما لديها باتّزان وذوق رفيع، وتقدّم لنا معارف نقيّة تسعى إلى عرض الظاهرة الفنّيّة على طبيعتها.

لا تخفي بن تسفي دوافعها لتأليف هذا الكتاب، وتحدّثنا في الخاتمة أنّه مشبع بالتوتّر الجدليّ الذي يعيشه الأدب الفلسطينيّ في إسرائيل، ويحاول فكّ العُقد القائمة وتفكيك ما قد حيك، “يسعى لتغيير تاريخ التمثيل المشحون، والمواقف المشتقّة منه، ورسم معالم التغيير”(ص 222).

إلى جوار نصوص أخرى تسعى إلى استيضاح قضايا ثقافيّة وسياسيّة مشحونة، يساهم هذا الكتاب في خلق حيّز خطابيّ ومادّيّ آمِن لطرح كلّ موضوع وسبر أغواره، كخيار لفظيّ وفعليّ لخلق تغيير يمضي قُدُمًا بالمصالحة ، ولتطوير حِوار مفتوح بين شعبَيْ هذه البلاد.

ترجم المقال عن العبرية جلال حسن

[1] “إم ترتسو إين زو أغادا” (“إذا أردتم فلن يكون الأمر أسطورة”)- مقولة شهيرة من كتاب ثيودور هرزل (آلتنويلاند)، والمعنى المجازيّ هو: بإرادتكم تحقّقون الأساطير والمعجزات. جر توظيف هذه الجملة كأحد شعارات الحركة الصهيونيّة المركزيّة.

مرزوق الحلبي هو صحافيّ وأديب، وشاعر وناقد أدبيّ وثقافيّ، ويكتب زاوية ثابتة (عمودًا ثابتًا) في صحيفة “الحياة” التي تصدر في لندن وبيروت والمملكة العربيّة السعوديّة.

مرزوق الحلبي

מִנְבַּר

حول كتاب د. طال بن تسفي، صبرا – تمثيلات النكبة في الفن الفلسطيني في اسرائيل، اصدار ريزلينغ، 2014

حتّى في الأزمنة العصيبة التي تتميّز بالتحريض الأرعن ضدّ الفلسطينيّين بخاصّة، وضدّ العرب عمومًا، وبالعنصريّة، ونزعات التعصّب القوميّ اليهوديّة التي تلامس الفاشيّة، حتّى في أزمنة كهذه يصدر كتاب مشوّق ومثير يحمل عنوانًا مباشرًا لا لبس فيه: “صبرا- تمثيلات النكبة في الفنّ الفلسطينيّ في إسرائيل”. وعلى الرغم من الأجواء المسمومة والمكارثيّة التي تبثّها وزيرة الثقافة من جهة، وحركة “إم ترتسو” (“إذا أردتم”)[1] من الجهة المقابلة، فثمّة من المبدعين من يطرح رؤيته في الحيّز العامّ بنبرة واضحة وبهامة منتصبة. هذا ما تفعله طال بن تسفي في كتابها المذكور، وهو ثمرة عملها الدؤوب لعقدين من الزمن في الحقل الفنّيّ، واطّلاعها الواسع والمباشر حول الفنّ الفلسطينيّ في إسرائيل، وتجربتها العريقة في العمل كأمينة معارض لخيرة الفنّانين الفلسطينيّين، ودراستها الأكاديميّة وتخصّصها في المجال.

عنوان الكتاب لوحده يكفي كي يثير حفيظة أصحاب النزعات القوميّة المتطرّفة من اليهود الذين يبحثون عن الصدام والخصومة، ويحاولون دبّ الذعر وإسكات الأصوات المعارِضة من خلال التنكُّر التامّ للرواية الفلسطينيّة التي تُخصّص لها بن تسفي كتابها بأكمله. ربّما على ضوء نشر أقوالنا هذه الأقوال، سينهض “خيرة” العنصريّين ويطالبون بمحاسبة “مفعال هَبايس” الذي موّل إصدار الكتاب، وقد يلحقون اسم بن تسفي في قائمة [المُخْبِرين] “المزروعين” بما يليق بحملتهم الإعلاميّة المقزّزة. وقد تعلو أصوات العنصريّين الجدد المعارِضة: كيف تتجرّأ هذه على التفوّه بكلمة “نكبة”، وهي حدث لم يحصل قَطّ؟

الكتاب بفصوله الخمسة وخاتمته يشكّل عملًا مشوّقًا لمبدعة متضلّعة في كلّ خبايا ومشارب الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ الذي ينتج في فلسطين التاريخيّة وخارجها. سنقسّم المعارف الضخمة التي تحتويها صفحات هذا الكتاب (287 صفحة) إلى أربعة أقسام أساسيّة: الأوّل هو الدراية في التاريخ الفلسطيني؛ والثاني هو الدراية في الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ على امتداد عقوده الستّة؛ والثالث هو المعارف الفنّيّة النظريّة؛ والرابع هو الاطّلاع العميق على الخطاب الفلسطينيّ الذي يشكّل منبعًا للفنّانين وللأعمال التي أعمَلت فيها المؤلفة تحليلًا وتمحيصًا. هذه المعارف المتكاملة حِيكت بيد فنّان، ومنحتنا تجربة قراءة وتعلُّم استثنائيّة. وهنا أجد لزامًا عليّ الإطراء لبن تسفي، وذلك أنّني لم أعثر على أيّ كتاب باللغة العربيّة يستحضر حكاية الفنّ الفلسطينيّ كما يفعل كتابها، لا بين آلاف الكتب التي تضمّها مكتبتي ولا في أيّ مكتبة فلسطينيّة.

تتناول بن تسفي الفنّ الفلسطينيّ من خلال ثلاثة أجيال من الفنّانين: جيل النكبة الذي يمثّله الفنّان الحيفاويّ عبد عابدي الذي يواصل العمل والإبداع في الأستوديو القائم في حيفا؛ والجيل الأوسط، ويمثّله وليد أبو شقرة، وأسد عزّي، وأسامة سعيد، وعصام أبو شقرة، وإبراهيم نوباني، والجيل الثالث الذي يمثّله حنّا فرح، وسامي بخاري، وأحلام شبلي، ورائدة أدون، وإسكندر قبطي، وربيع بخاري، وأنيسة أشقر، ورأفت خطّاب، وضرار سليمان. وقد أورد الكتاب أنّ قائمة الجيل الثالث قد اختيرت لغرض النقاش من بين أكثر من 300 فنّان شابّ يعملون اليوم في إسرائيل، وهي تمثّل على نحوٍ مقْنع الموضوعَ الذي سعت الكاتبة إلى طرحه في كتابها. ومن جهتي أضيف أنّ العشرات من الفنّانين الفلسطينيّين الشبّان ينشطون اليوم في مجالات إبداعيّة متنوّعة داخل الحيّز العامّ الإسرائيليّ، ويواصلون إثراء الثقافة المحلّيّة وفرض التحدّيات عليها.

سامي بخاري، بغسوس، 2002، تصوير: تسفيكا روجر، اوتوبيا
جميع الحقوق محفوظة لبيت الكرمة، المركز العربي اليهودي، حيفا

تباينت تمثيلات النكبة في الفنّ الفلسطينيّ من جيل لآخر، وبين فنّان يعيش في وطنه وآخر يعيش في المنفى، وبين فنّان يرزح تحت الاحتلال وآخر يعيش في الغربة الفلسطينيّة. عثرت بن تسفي على فروق شتّى في تمثيل النكبة بين من درسوا الفنّ في المؤسّسات الأكاديميّة الإسرائيليّة من درسوا في خارج البلاد، ولم تتجاهل كذلك نقاط التّماسّ والحوارات التي يُجريها الفنّ الفلسطينيّ في إسرائيل مع الفنّ الإسرائيليّ بعامّة، حتّى من “الهامشيّ” الذي يتبوّأه الفنّانون الفلسطينيّون داخل الفنّ المعياريّ في إسرائيل. وبحسب المؤلّفة، لا يمكن تجاهل صوتهم ولونهم داخل حقل الفنون الإسرائيليّ على الرغم من هذه المكانة الهامشيّة. مع مرور السنين، ينجح المزيد من الفنّانين الفلسطينيّين في إسرائيل في تحطيم “السقف الزجاجيّ”، ويتمكّنون من إحضار أعمالهم الفنّيّة إلى قلب المدينة اليهوديّة. هذا ما قامت به ميرفت عيسى في أعمالها الطينيّة، وما قام به صالح القرّا الذي ظهر على حين غرّة ولم يتوقّف منذئذ على طرح المفاجآت، وفارس حمدان وسواهم. بعض هؤلاء تمّكنوا من الوصول إلى دول أخرى كذلك، نحو شريف واكد، ومنار الزعبي وغيرهما.

تخلع الكاتبة على عبد عابدي لقب “أبو الفنّ الفلسطيني في إسرائيل”. وربّما تكون محقّة في ذلك، وذلك أنّه الوحيد من أبناء جيله الذي واصل العمل وتمثيل الرواية الفلسطينيّة بشتّى مواضيعها. عبد الله (عوفاديا) القَرا، على سبيل المثال، اتّخذ منعطفًا حادًّا وانصهر في المشهد الفنّيّ الإسرائيليّ عبر الانتماء إلى تيّار فنّيّ وهُويّة فنّيّة فردانيّة، ونأى بنفسه عن الانتماء القوميّ. وبحسب بن تفسي، فقد سار فنّانو الجيل الثاني على خُطا عبد عابدي من حيث الانشغال بالنكبة، واتّجهوا في دروب مختلفة، وعلى الرغم من عملهم داخل الحقل الفنّيّ الإسرائيليّ واستخدامهم لأدواته المختلفة، فإنّهم بقوا ينضوون تحت تعريف الفنّانين الفلسطينيّين. في المقابل، وسّع الجيل الثالث من الفنّانين الفلسطينيّين استخدام وسائل التعبير الفنّيّة، واستخدموا التصوير والفيديو آرت، والفنّ الأدائيّ. ثمّة فرق آخر بين فنّاني الجيل الثالث والجيلين اللذين سبقاه، يتمثّل في اللغة الفنّيّة التي قاموا باستخدامها إذ إنّ انشغالهم في موضوعة النكبة أصبح “انشغالًا في التمثيل العينيّ للفضاء الجغرافيّ الفلسطينيّ بعد النكبة، نحو المدن العربيّة يافا وحيفا وعكّا، بالإضافة إلى مواقع ترتبط باللجوء، إلى جانب الصبّار والقرى المهجّرة والمدمّرة” (ص 12). في أعمال الفيديو آرت لهذا الجيل، تبرز على نحوٍ خاصّ ظاهرة توظيف اللغة العربيّة كعلامات تعريفيّة للمكان والحيّز من خلال تحدّي العلامات التعريفيّة العبريّة التي توضع في المكان (أي فلسطين التاريخيّة، الوطن) منذ النكبة في العام 1948.

من خلال تحليل نشاطات الفنّانين الذين تقوم بمراجعة أعمالهم في هذا الكتاب، تحدّد الكاتبة أنّ الفنّ الفلسطينيّ الذي أُنتِج في إسرائيل منذ النكبة -وعلى امتداد ستّين عامًا- هو فنّ ذو خصوصيّة، ويتحدّث بلغة رمزيّة وتمثيليّة متفرّدة. بحسب الكاتبة، هذا التفرّد يتجسّد – في ما يتجسّد- في استخدام الفنّانين لـِ “وسائل وأدوات فنّيّة تتجاوز حدود الحقول القوميّة واضحة المعالم” (ص 13)، ومردّ ذلك في رأيها إلى انتمائهم لثلاثة حقول فنّيّة مختلفة وهي: 1. حقل النشاط الفلسطينيّ المتخيَّل للحيّز برمّته. 2. حقل الفنّ الإسرائيليّ المعياريّ ذو الأهواء والنزعات الغربيّة. 3. حقل الفنّ الفلسطينيّ في إسرائيل الذي يشكّل الحقلان المذكوران مصدرَيْ إلهامِهِ (ص 13). ثمّة تفرُّد آخر يتمثّل في حقيقة أنّ الأعمال الفنّيّة تحاول التواصل مع قطاعات متنوّعة: الإسرائيليّين، والفلسطينيّين في إسرائيل، والفلسطينيّين والعالم العربيّ بعامّة، وصولًا إلى العالم برمّته. هذا النشاط الفنّيّ يتغذّى من حقول ثقافيّة فلسطينيّة أخرى، نحو الشعر، والنثر، والمسرح وغيرها، عبر أعمال أُنتِجت داخل إسرائيل وخارج حدودها. الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ هو عضو حيّ في جسد الثقافة الفلسطينيّة بعامّة، وموضوعتها الرئيسيّة هي النكبة والرواية الفلسطينيّة.

يظهر على امتداد الكتاب أنّ بن تسفي تتناول الموضوع المطروح بألفة وحميميّة، ومن خلال الرغبة الصادقة في التصالح مع الشعب الفلسطينيّ والاعتراف بنكبته الوطنيّة. في كتابتها نبرة واضحة بأنّها عاقدة العزم على توظيف معارفها في مجال عملها، وفي الكتابة، والنظريّة والتطبيق بغية [المساهمة في] خلق تغيير في الصراع نحو التسوية والمصالحة، وهي تكتب كناشطة مطّلعة على ما يدور في المجتمع، وكأمينة معارض فنّيّة، وكأكاديميّة قامت من قبل بتأليف عدد من الأعمال حول الفنّ الفلسطينيّ وحول فنّانين فلسطينيّين. يتّضح كذلك أنّ علاقات صداقة وعمل تربط بين بن تسفي وبعض الفنّانين الذين تكتب عنهم، ومع بعض مَن لم تتناولهم في كتابها. على الرغم من ذلك، لا نجدها تتملّق لهذا الفنان أو ذاك، بل تتحدّث بلغة موضوعيّة تستحقّ التقدير والثناء. علاوة على ذلك، يخلو الكتاب من لغة الوصاية أو التنميط التي نعثر عليها -في المعتاد- بعامّة عندما يقوم مؤلّف يهوديّ بالكتابة حول شؤون فلسطينيّة؛ على سبيل المثال عندما يطرح الكُتّاب اليهود أنّ العمل الأدبيّ الفلسطينيّ هو أدب مجنّد وشعاراتيّ وتغيب عنه الأبعاد الجماليّة. تتصرّف بن تسفي في هذا الكتاب بأمانة تجاه مهنتها كأمينة معارض، وكمؤلّفة، ومحاضرة في المؤسّسة الأكاديميّة، وتعرض ما لديها باتّزان وذوق رفيع، وتقدّم لنا معارف نقيّة تسعى إلى عرض الظاهرة الفنّيّة على طبيعتها.

لا تخفي بن تسفي دوافعها لتأليف هذا الكتاب، وتحدّثنا في الخاتمة أنّه مشبع بالتوتّر الجدليّ الذي يعيشه الأدب الفلسطينيّ في إسرائيل، ويحاول فكّ العُقد القائمة وتفكيك ما قد حيك، “يسعى لتغيير تاريخ التمثيل المشحون، والمواقف المشتقّة منه، ورسم معالم التغيير”(ص 222).

إلى جوار نصوص أخرى تسعى إلى استيضاح قضايا ثقافيّة وسياسيّة مشحونة، يساهم هذا الكتاب في خلق حيّز خطابيّ ومادّيّ آمِن لطرح كلّ موضوع وسبر أغواره، كخيار لفظيّ وفعليّ لخلق تغيير يمضي قُدُمًا بالمصالحة ، ولتطوير حِوار مفتوح بين شعبَيْ هذه البلاد.

ترجم المقال عن العبرية جلال حسن

[1] “إم ترتسو إين زو أغادا” (“إذا أردتم فلن يكون الأمر أسطورة”)- مقولة شهيرة من كتاب ثيودور هرزل (آلتنويلاند)، والمعنى المجازيّ هو: بإرادتكم تحقّقون الأساطير والمعجزات. جر توظيف هذه الجملة كأحد شعارات الحركة الصهيونيّة المركزيّة.

مرزوق الحلبي هو صحافيّ وأديب، وشاعر وناقد أدبيّ وثقافيّ، ويكتب زاوية ثابتة (عمودًا ثابتًا) في صحيفة “الحياة” التي تصدر في لندن وبيروت والمملكة العربيّة السعوديّة.

Below are share buttons

גליונות אחרונים

לכל הגליונות