אריאל שיטרית
Below are share buttons

شاعريّة الحيّز والمكان في قصّة “ضربة قاضية”

عدد 05,

في الأدب الذي يُكتب على خلفيّة نزاعات حول رقعة جغرافيّة معيّنة، وعلى خلفيّة انعدام المساواة بين مجموعتين سكّانيّتين تتقاسمان الحيّز ذاته، تَكتسب شاعريّة الحيّز أهمّيّةً خاصّة. على هذه الخلفيّة، التعامل مع الحيّز والمكان لدى الكتّاب الفلسطينيّين يحمل الكثير من الأهمّيّة والإثارة. أصدر البرغوثي حتّى الآن مجموعتَيْ قصص قصيرة : نضوج (2006)، وَ بين البيوت ( 2011)، وصدرت له مؤخّرًا باكورة أعماله الروائيّة بردقانة (2014). في معظم أعمال البرغوثي الأدبيّة، يحتلّ المكان موقع الصدارة، ونتحدّث هنا عن مدن داخل دولة إسرائيل، نحو: عكّا، وحيفا، ويافا، والناصرة، وغيرها.

ينسحب هذا الأمر أيضًا على قصّة “ضربة قاضية”.¹ وتعكس توصيفات مدينة عكّا في هذا الكتاب الحالة النفسيّة والمهنيّة للبطل، وتعبّر المواقع التي يسافر إليها خارج البلاد في مشواره الاحترافيّ القصير عن صعود نجمه ومن ثَمّ أُفوله. تتحدّث القصّة عن ملاكم فلسطينيّ يحمل الجنسيّة الإسرائيلية بدءًا من اكتشاف موهبته وهو في الثالثة عشرة من العمر، وعلى امتداد سنوات السبعين. المباريات التي يشارك فيها تشكّل محطّات القصّة: من عكّا في سنة غير معلومة إلى تل أبيب في العام 1973، وإلى باريس في العام 1977، وإلى نيويورك في العام 1978، ومن ثَمّ إلى دوسلدورف الألمانيّة في العام 1997، والعودة إلى عكّا نقطة البداية في العام 1980، بينما كان من المفترض فيه أن يكون قد حطّ في موسكو للمشاركة في إحدى مباريات الملاكمة في إطار الألعاب الأولمبيّة.

تبدأ القصّة وتنتهي في النقطة ذاتها في عكّا في العام 1980، وبطل القصّة “أديب النسناس” جالس أمام شاشة التلفاز يشاهد مراسيم افتتاح الأولمبياد في موسكو. كان من المفترض فيه أن يكون هناك، لكن الذي حصل هو أنّ إسرائيل ودولًا أخرى كثيرة أعلنت عن مقاطعتها للأولمبياد بسبب الغزو الروسيّ لأفغانستان. بقي “أديب” في منزله ولم تَتَسنَّ له المشاركة في المباريات (وهو ما يثير الكثير من المفارقة على خلفيّة ممارسات إسرائيل في الضفّة الغربيّة). تُحكى القصّة كومضات استرجاعيّة لمسيرة “أديب” الرياضيّة، من بدايتها حتّى نهايتها. في الجملة الأخير، نعرف أنّ “أديب” لن يشارك في سباقات الملاكمة بعد اليوم.

تُفتتَح القصّة على النحو التالي: “عندما شاهد أديب وفود الرياضيّين تلوّح بأيديها للجماهير المصّفقة في إستاد موسكو تحسّر، “كان عليّ أن أكون هناك”. لقد وعد نفسه بالميداليّة الذهبيّة، وكلّهم توقّعوها له […] خرج إلى زواريب حارة العبيد المظلمة واختفى في عتمتها، مشى”… (ص 103). من خلال مشاهدة البطل للتلفاز، تَستحضر القصّةُ المكانَ الذي لم يصله هو بنفسه، والتَّوْقَ إلى المكان الذي أراد أن يصله، والإحباطَ بسبب المراوحة في المكان، ونهايةَ المسيرة الرياضيّة، ونهايةَ القصّة.

الجمل الأخيرة في القصّة تُمَوْضِع “أديب النسناس” في النقطة نفسها تمامًا، وما المراوحة في المكان سوى التجسيد الأكثر وضوحًا لـِ “الضربة القاضية”- للهزيمة: “اختفى، بعد الاحتفال الافتتاحيّ المؤلم، في زقاقات حارة العبيد ومشى في شرايين المدينة المحصّنة وعندما حطّ عند السور وقف عليه، البحر سجّادة سوداء والأفق لا يستجيب لنداء الفنار ولا لصرخته. لم يقفز عن السور لكن عنده قرّر: “لن ألاكم بعد اليوم”” (ص 110).

بين الجملة الافتتاحيّة ونهاية القصة، تنتقل رحلة “أديب” مع الملاكمة من مكان إلى آخر ومن نجاح إلى نجاح أكبر. يبدأ مشواره في عكّا في “قاعة صغيرة بجانب الفنار” (ص 104). المكان الصغير الذي فيه “كيسان جلديّان ممتلئان بالرّمل” هو محطّة البداية لانطلاقته اللاحقة، وهو يرمز إلى الأمل بتحقيق المجد في المستقبل: من هذا المكان الصغير المهمل لا يمكن سوى التقدّم إلى الأمام أو “التوحيل”. في بداية القصّة يشكّل الفنار وسور عكّا والبحر رموزًا إيجابيّة تسلّط الضوء على “القدرة الكامنة على التواصل مع العالم الواسع، وفي نهاية القصّة ترمز الأماكن ذاتها إلى الطريق المسدود الذي وصل إليه “أديب النسناس”، وإلى انسداد الأفق وانكماش الحيّز.

الفنار يرمز إلى الضوء والسّفر بين العوالم، وهذا ما حصل بالفعل لرحلة أديب مع الملاكمة حيث نراه يمتطي بساط الريح ويصل إلى بلدان شتّى وراء البحار. في بداية القصة، يصف الكاتب سور عكّا على النحو التالي: “كان خلال تلك السنين يركض حول ساحة السور الشرقيّ الذي بناه العكّيّون أيّام حكم أحمد باشا الجزّار في أواخر القرن الثامن عشر، سورٌ بنّيٌّ متين حصّن المدينة من البحر والغزاة، وينزل عنه ليجوب الملعب المرسوم […] لعشر مرّات متتالية، وكان أديب يمتحن لياقته إذا أنهى ركضه أسرع من اليوم السابق” (ص 107). غريمه الفرنسيّ يُشبَّه بنابوليون: “المتين والقصير القامة كنابليون” -وهو إطراء مثير للريبة إذا تذكّرنا هزيمة نابوليون القائد الأعظم، ومحاولاته الفاشلة اختراق أسوار عكّا.

في نهاية القصّة، يجري توصيف المكان ذاته كـَ “سَجّادة سوداء” والأفق والضوء غائبان تمامًا “والأفق لا يستجيب لنداء الفنار ولا لصرخته”. الآن يُختزَل مكان رحلاته المتعرّجة إلى أزقّة عكّا، إلى حين وصول “أديب” إلى سور المدينة الذي يخبّئ في داخله الدلالة الرمزيّة للحاجز وَ “التوحيل”. السور الذي يشكّل رمزًا للحراكيّة والقوّة في بداية القصّة يتحوّل إلى حاجز.

المحطّة الأولى خارج عكّا هي تل أبيب التي لا يُنازِل فيها “أديب” ملاكمين آخرين فحسب، بل يواجه كذلك صرخات الاستهجان “عربيّ قذر” التي يطلقها الجمهور “بلهجة المهاجرين المغاربة، بعبريّة عربيّة” (ص 106). هذه الصرخات تجسّد تَشابُك اللغتين العربيّة والعبريّة على نحوٍ يحمل الكثير من المفارقة، فمن يصرخ “عربيّ قذر” هو نفسه من أصل عربيّ، عربيّ-يهوديّ رضع العربيّة مع حليب أمّه. هذا الأمر يطرح أسئلة حول العلاقة بين اللغة والانتماء للمكان: فعلى الرغم من أنّهم يقاسمونه لغة مشتركة، ما زال القادمون الجدد (المهاجرون) من المغرب يحاولون طرد العربيّ من الحيّز الذي يعتبرونه حيّزهم لوحدهم. المفارقة تزداد شراسة لأنّ “أديب” هو ابن هذه البلاد، ومن سكّانها الأصليّين، على خلاف الجمهور الذي يتحدّث العربيّة وجُلُّهُ من المهاجرين. هذا هو الاستقبال الموجع الذي يحظى به أديب عند خروجه من عكّا إلى تل أبيب. لكن أبناء حارته يستقبلونه بحفاوة بالغة عند عودته ظافرًا من تل أبيب.

في المحطّة التالية، في مُنازَلة باريس، ثمّة مهاجرون مغاربة بين الجمهور، فلا بدّ من المقارنة إذًا: على خلاف المغاربة اليهود في البلاد الذي يطلقون الشتائم تجاهه، يبدأ المغاربة الباريسيّون قبل إطلاق المباراة بإطلاق هتافات التشجيع لـِ “أديب”. هنا تشكّل عروبته ركيزة التماثل في الحيّز الفرنسيّ الغريب.

في هذه القصّة يخضع الغرض (المكان) إلى تحوّل جوهريّ بما يمثّل، وهو يرمز إلى أمر وعكسه، لا سيّما عندما يُعْرَض في مكان وزمان آخرَيْن. هذا ما حصل -على سبيل المثال- بالنسبة للفنار والسور. السور الذي يرمز إلى المتانة وتَسَلُّق القمم في بداية القصّة، يتحوّل إلى حاجز في نهايتها؛ كذلك الأمر بالنسبة للمهاجرين المغاربة الذين يطلقون العنان في البلاد للكراهِيَة، وفي باريس تصدح حناجرهم بعبارات التشجيع. على هذا النحو تعبّر القصّة عن نسبيّة الحيّز، فهو ليس بالكيان المطلق، ويمكن صبّ مدلولات ومَعانٍ وهُويّات مختلفة في داخله.

كلّ مكان ينازل فيه “أديب النسناس” ملاكمين آخرين يعبّر عن ارتفاع في مستوى الصعوبة، وعن تقدُّم نحو نجاح أكبر: كلّ مكان هو ذروة جديدة في سلسلة الإنجازات، وخطوة أخرى نحو عالَم بلا حدود، بعيدًا عن المكان الضيّق والمحلّيّ. من هنا كان السقوط في النهاية حادًّا ومؤلمًا وغير متوقَّع، ويتحوّل ما كان يبدو صعودًا مستقيمًا إلى حركة دائريّة تبدأ وتنتهي في المكان ذاته، إلى مكان خانق ومخنوق. نجاحات “أديب” لا تُكسبه امتيازات خاصّة في المجتمع -على الأقلّ ليس بحسب الأحاسيس المتولّدة في الفقرة الأخيرة التي تصف واقعًا ضيّقًا أسْوَدَ مسدودَ الأفق.

ونسأل الآن: من هم هؤلاء الذين يُنازِلهم “أديب؟ هذا الأمر يتغيّر على امتداد القصّة. في البداية، ينازل أديب ملاكمين يهود، لكنّه في النهاية يمثّل هؤلاء اليهود أنفسهم. هل يعني الأمر أنّ الانتصارات هي بداية سقوطه، وهي تعبّر عن الوجود المستحيل للفلسطينيّين في الحيّز القائم؟ كيف يمكن تفسير نضالات “أديب” وإخفاقاته؟ في نهاية المنازلة، يبدو أديب كالعاجز الذي لا يُفلِح في الوصول إلى أيّ مكان على الرغم من موهبته الفذّة. وهو بهذا يشبه سور عكّا الذي يرمز إلى القوّة، لكنّه يرمز أيضًا إلى الانغلاق والانخناق. هذه القصّة لا تتناول المواجهة بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين على نحوٍ صريح، لكن القصّة كلّها تصوّر نضالًا من خلال الملاكمة.

يمارس بطل القصّة لعبة الملاكمة كي ينجح ويتقدّم، وهو يمثّل (ويجسد) نضال الفلسطينيّ الفرد، المواطن الساذج الذي يسعى لقطف النجاحات الفرديّة والشخصيّة في الحيّز الذي يعيش داخله. على امتداد الدرب المتعرّج في القصّة، لا يمكن الانفصال ولو للحظة واحدة عن النضال القوميّ الذي يتغلغل إلى الفضاءات الفرديّة والخاصّة -وعلى نحوِ ما يستدلّ من هذا العمل، يؤدّي المكان فيه دَورًا حاسمًا ومركزيًّا.

  • ترجم المقال من العبرية: جلال حسن
    “ضربة قاضية” داخل المجموعة القصصيّة بين البيوت التي صدرت عن دار النشر: دار ملامح للنشر، القاهرة، 2011. الاقتباسات الواردة في المقالة أُخِذت من القصّة باللغة العربيّة (المترجم).
  • د. اريئيل شيطريت”]د. أريئيل شيطريت هي محاضرة في الأدب العربي الحديث في جامعة بن غوريون في النقب، ومحاضرة في السينما الفلسطينية في الجامعة المفتوحة
  1. התרגום לעברית מהאנתולוגיה שתיים, ירושלים: כתר, 2014. ציוני העמודים בטקסט מפנים לשם. מתורגם ד”ר אריאל שיטרית היא מרצה לספרות ערבית מודרנית באוניברסיטת בן גוריון בנגב ומרצה לקולנוע פלסטיני באוניברסיטה הפתוחה
إياد برغوثي

מִנְבַּר

في الأدب الذي يُكتب على خلفيّة نزاعات حول رقعة جغرافيّة معيّنة، وعلى خلفيّة انعدام المساواة بين مجموعتين سكّانيّتين تتقاسمان الحيّز ذاته، تَكتسب شاعريّة الحيّز أهمّيّةً خاصّة. على هذه الخلفيّة، التعامل مع الحيّز والمكان لدى الكتّاب الفلسطينيّين يحمل الكثير من الأهمّيّة والإثارة. أصدر البرغوثي حتّى الآن مجموعتَيْ قصص قصيرة : نضوج (2006)، وَ بين البيوت ( 2011)، وصدرت له مؤخّرًا باكورة أعماله الروائيّة بردقانة (2014). في معظم أعمال البرغوثي الأدبيّة، يحتلّ المكان موقع الصدارة، ونتحدّث هنا عن مدن داخل دولة إسرائيل، نحو: عكّا، وحيفا، ويافا، والناصرة، وغيرها.

ينسحب هذا الأمر أيضًا على قصّة “ضربة قاضية”.¹ وتعكس توصيفات مدينة عكّا في هذا الكتاب الحالة النفسيّة والمهنيّة للبطل، وتعبّر المواقع التي يسافر إليها خارج البلاد في مشواره الاحترافيّ القصير عن صعود نجمه ومن ثَمّ أُفوله. تتحدّث القصّة عن ملاكم فلسطينيّ يحمل الجنسيّة الإسرائيلية بدءًا من اكتشاف موهبته وهو في الثالثة عشرة من العمر، وعلى امتداد سنوات السبعين. المباريات التي يشارك فيها تشكّل محطّات القصّة: من عكّا في سنة غير معلومة إلى تل أبيب في العام 1973، وإلى باريس في العام 1977، وإلى نيويورك في العام 1978، ومن ثَمّ إلى دوسلدورف الألمانيّة في العام 1997، والعودة إلى عكّا نقطة البداية في العام 1980، بينما كان من المفترض فيه أن يكون قد حطّ في موسكو للمشاركة في إحدى مباريات الملاكمة في إطار الألعاب الأولمبيّة.

تبدأ القصّة وتنتهي في النقطة ذاتها في عكّا في العام 1980، وبطل القصّة “أديب النسناس” جالس أمام شاشة التلفاز يشاهد مراسيم افتتاح الأولمبياد في موسكو. كان من المفترض فيه أن يكون هناك، لكن الذي حصل هو أنّ إسرائيل ودولًا أخرى كثيرة أعلنت عن مقاطعتها للأولمبياد بسبب الغزو الروسيّ لأفغانستان. بقي “أديب” في منزله ولم تَتَسنَّ له المشاركة في المباريات (وهو ما يثير الكثير من المفارقة على خلفيّة ممارسات إسرائيل في الضفّة الغربيّة). تُحكى القصّة كومضات استرجاعيّة لمسيرة “أديب” الرياضيّة، من بدايتها حتّى نهايتها. في الجملة الأخير، نعرف أنّ “أديب” لن يشارك في سباقات الملاكمة بعد اليوم.

تُفتتَح القصّة على النحو التالي: “عندما شاهد أديب وفود الرياضيّين تلوّح بأيديها للجماهير المصّفقة في إستاد موسكو تحسّر، “كان عليّ أن أكون هناك”. لقد وعد نفسه بالميداليّة الذهبيّة، وكلّهم توقّعوها له […] خرج إلى زواريب حارة العبيد المظلمة واختفى في عتمتها، مشى”… (ص 103). من خلال مشاهدة البطل للتلفاز، تَستحضر القصّةُ المكانَ الذي لم يصله هو بنفسه، والتَّوْقَ إلى المكان الذي أراد أن يصله، والإحباطَ بسبب المراوحة في المكان، ونهايةَ المسيرة الرياضيّة، ونهايةَ القصّة.

الجمل الأخيرة في القصّة تُمَوْضِع “أديب النسناس” في النقطة نفسها تمامًا، وما المراوحة في المكان سوى التجسيد الأكثر وضوحًا لـِ “الضربة القاضية”- للهزيمة: “اختفى، بعد الاحتفال الافتتاحيّ المؤلم، في زقاقات حارة العبيد ومشى في شرايين المدينة المحصّنة وعندما حطّ عند السور وقف عليه، البحر سجّادة سوداء والأفق لا يستجيب لنداء الفنار ولا لصرخته. لم يقفز عن السور لكن عنده قرّر: “لن ألاكم بعد اليوم”” (ص 110).

بين الجملة الافتتاحيّة ونهاية القصة، تنتقل رحلة “أديب” مع الملاكمة من مكان إلى آخر ومن نجاح إلى نجاح أكبر. يبدأ مشواره في عكّا في “قاعة صغيرة بجانب الفنار” (ص 104). المكان الصغير الذي فيه “كيسان جلديّان ممتلئان بالرّمل” هو محطّة البداية لانطلاقته اللاحقة، وهو يرمز إلى الأمل بتحقيق المجد في المستقبل: من هذا المكان الصغير المهمل لا يمكن سوى التقدّم إلى الأمام أو “التوحيل”. في بداية القصّة يشكّل الفنار وسور عكّا والبحر رموزًا إيجابيّة تسلّط الضوء على “القدرة الكامنة على التواصل مع العالم الواسع، وفي نهاية القصّة ترمز الأماكن ذاتها إلى الطريق المسدود الذي وصل إليه “أديب النسناس”، وإلى انسداد الأفق وانكماش الحيّز.

الفنار يرمز إلى الضوء والسّفر بين العوالم، وهذا ما حصل بالفعل لرحلة أديب مع الملاكمة حيث نراه يمتطي بساط الريح ويصل إلى بلدان شتّى وراء البحار. في بداية القصة، يصف الكاتب سور عكّا على النحو التالي: “كان خلال تلك السنين يركض حول ساحة السور الشرقيّ الذي بناه العكّيّون أيّام حكم أحمد باشا الجزّار في أواخر القرن الثامن عشر، سورٌ بنّيٌّ متين حصّن المدينة من البحر والغزاة، وينزل عنه ليجوب الملعب المرسوم […] لعشر مرّات متتالية، وكان أديب يمتحن لياقته إذا أنهى ركضه أسرع من اليوم السابق” (ص 107). غريمه الفرنسيّ يُشبَّه بنابوليون: “المتين والقصير القامة كنابليون” -وهو إطراء مثير للريبة إذا تذكّرنا هزيمة نابوليون القائد الأعظم، ومحاولاته الفاشلة اختراق أسوار عكّا.

في نهاية القصّة، يجري توصيف المكان ذاته كـَ “سَجّادة سوداء” والأفق والضوء غائبان تمامًا “والأفق لا يستجيب لنداء الفنار ولا لصرخته”. الآن يُختزَل مكان رحلاته المتعرّجة إلى أزقّة عكّا، إلى حين وصول “أديب” إلى سور المدينة الذي يخبّئ في داخله الدلالة الرمزيّة للحاجز وَ “التوحيل”. السور الذي يشكّل رمزًا للحراكيّة والقوّة في بداية القصّة يتحوّل إلى حاجز.

المحطّة الأولى خارج عكّا هي تل أبيب التي لا يُنازِل فيها “أديب” ملاكمين آخرين فحسب، بل يواجه كذلك صرخات الاستهجان “عربيّ قذر” التي يطلقها الجمهور “بلهجة المهاجرين المغاربة، بعبريّة عربيّة” (ص 106). هذه الصرخات تجسّد تَشابُك اللغتين العربيّة والعبريّة على نحوٍ يحمل الكثير من المفارقة، فمن يصرخ “عربيّ قذر” هو نفسه من أصل عربيّ، عربيّ-يهوديّ رضع العربيّة مع حليب أمّه. هذا الأمر يطرح أسئلة حول العلاقة بين اللغة والانتماء للمكان: فعلى الرغم من أنّهم يقاسمونه لغة مشتركة، ما زال القادمون الجدد (المهاجرون) من المغرب يحاولون طرد العربيّ من الحيّز الذي يعتبرونه حيّزهم لوحدهم. المفارقة تزداد شراسة لأنّ “أديب” هو ابن هذه البلاد، ومن سكّانها الأصليّين، على خلاف الجمهور الذي يتحدّث العربيّة وجُلُّهُ من المهاجرين. هذا هو الاستقبال الموجع الذي يحظى به أديب عند خروجه من عكّا إلى تل أبيب. لكن أبناء حارته يستقبلونه بحفاوة بالغة عند عودته ظافرًا من تل أبيب.

في المحطّة التالية، في مُنازَلة باريس، ثمّة مهاجرون مغاربة بين الجمهور، فلا بدّ من المقارنة إذًا: على خلاف المغاربة اليهود في البلاد الذي يطلقون الشتائم تجاهه، يبدأ المغاربة الباريسيّون قبل إطلاق المباراة بإطلاق هتافات التشجيع لـِ “أديب”. هنا تشكّل عروبته ركيزة التماثل في الحيّز الفرنسيّ الغريب.

في هذه القصّة يخضع الغرض (المكان) إلى تحوّل جوهريّ بما يمثّل، وهو يرمز إلى أمر وعكسه، لا سيّما عندما يُعْرَض في مكان وزمان آخرَيْن. هذا ما حصل -على سبيل المثال- بالنسبة للفنار والسور. السور الذي يرمز إلى المتانة وتَسَلُّق القمم في بداية القصّة، يتحوّل إلى حاجز في نهايتها؛ كذلك الأمر بالنسبة للمهاجرين المغاربة الذين يطلقون العنان في البلاد للكراهِيَة، وفي باريس تصدح حناجرهم بعبارات التشجيع. على هذا النحو تعبّر القصّة عن نسبيّة الحيّز، فهو ليس بالكيان المطلق، ويمكن صبّ مدلولات ومَعانٍ وهُويّات مختلفة في داخله.

كلّ مكان ينازل فيه “أديب النسناس” ملاكمين آخرين يعبّر عن ارتفاع في مستوى الصعوبة، وعن تقدُّم نحو نجاح أكبر: كلّ مكان هو ذروة جديدة في سلسلة الإنجازات، وخطوة أخرى نحو عالَم بلا حدود، بعيدًا عن المكان الضيّق والمحلّيّ. من هنا كان السقوط في النهاية حادًّا ومؤلمًا وغير متوقَّع، ويتحوّل ما كان يبدو صعودًا مستقيمًا إلى حركة دائريّة تبدأ وتنتهي في المكان ذاته، إلى مكان خانق ومخنوق. نجاحات “أديب” لا تُكسبه امتيازات خاصّة في المجتمع -على الأقلّ ليس بحسب الأحاسيس المتولّدة في الفقرة الأخيرة التي تصف واقعًا ضيّقًا أسْوَدَ مسدودَ الأفق.

ونسأل الآن: من هم هؤلاء الذين يُنازِلهم “أديب؟ هذا الأمر يتغيّر على امتداد القصّة. في البداية، ينازل أديب ملاكمين يهود، لكنّه في النهاية يمثّل هؤلاء اليهود أنفسهم. هل يعني الأمر أنّ الانتصارات هي بداية سقوطه، وهي تعبّر عن الوجود المستحيل للفلسطينيّين في الحيّز القائم؟ كيف يمكن تفسير نضالات “أديب” وإخفاقاته؟ في نهاية المنازلة، يبدو أديب كالعاجز الذي لا يُفلِح في الوصول إلى أيّ مكان على الرغم من موهبته الفذّة. وهو بهذا يشبه سور عكّا الذي يرمز إلى القوّة، لكنّه يرمز أيضًا إلى الانغلاق والانخناق. هذه القصّة لا تتناول المواجهة بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين على نحوٍ صريح، لكن القصّة كلّها تصوّر نضالًا من خلال الملاكمة.

يمارس بطل القصّة لعبة الملاكمة كي ينجح ويتقدّم، وهو يمثّل (ويجسد) نضال الفلسطينيّ الفرد، المواطن الساذج الذي يسعى لقطف النجاحات الفرديّة والشخصيّة في الحيّز الذي يعيش داخله. على امتداد الدرب المتعرّج في القصّة، لا يمكن الانفصال ولو للحظة واحدة عن النضال القوميّ الذي يتغلغل إلى الفضاءات الفرديّة والخاصّة -وعلى نحوِ ما يستدلّ من هذا العمل، يؤدّي المكان فيه دَورًا حاسمًا ومركزيًّا.

  • ترجم المقال من العبرية: جلال حسن
    “ضربة قاضية” داخل المجموعة القصصيّة بين البيوت التي صدرت عن دار النشر: دار ملامح للنشر، القاهرة، 2011. الاقتباسات الواردة في المقالة أُخِذت من القصّة باللغة العربيّة (المترجم).
  • د. اريئيل شيطريت”]د. أريئيل شيطريت هي محاضرة في الأدب العربي الحديث في جامعة بن غوريون في النقب، ومحاضرة في السينما الفلسطينية في الجامعة المفتوحة
  1. התרגום לעברית מהאנתולוגיה שתיים, ירושלים: כתר, 2014. ציוני העמודים בטקסט מפנים לשם. מתורגם ד”ר אריאל שיטרית היא מרצה לספרות ערבית מודרנית באוניברסיטת בן גוריון בנגב ומרצה לקולנוע פלסטיני באוניברסיטה הפתוחה
Below are share buttons

גליונות אחרונים

לכל הגליונות