בין אמיל חביבי למחמוד דרויש. מתוך כנס באוניברסיטת חיפה.
Below are share buttons

“على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة”: حول تقلّبات الروح الفلسطينيّة- بين إميل حبيبي ومحمود درويش

عدد 05,

في نهاية رواية المتشائل (1974)، في الفصل “كيف شارك سعيد في حرب الاستقلال لأوّل مرّة”، يحكي الراوي، وهو العميل العربيّ الإسرائيليّ الذي يتحدّث إميل حبيبي (1921-1996) من حنجرته، عن امرأة من قرية البروة تصادف في طريق عودتها إلى قريتها الحاكمَ العسكريّ الذي يقطع الطريق عليها ويصرخ عليها شاهرًا مسدّسه: “قومي اجري أمامي عائدة إلى أيّ مكان شرقًا، وإذا رأيتك مرّة ثانية على هذا الدرب فلن أوفّرك”. فتقبض المرأة على يد ابنها وتتوجّه شرقًا دون الالتفات وراءها، لكن في تلك اللحظة حصلت ظاهرة خارقة”:

فكلّما ابتعدت المرأة وولدها عن مكاننا، الحاكم على الأرض وأنا في الجِيب، ازدادا طولاً حتّى اختلطا بظلّيهما في الشمس الغاربة فصارا أطول من سهل عكّا. فظلّ الحاكم واقفًا ينتظر اختفاءهما، وظللت أنا قاعدًا أنكمش حتّى تساءل مذهولاً: “متى يغيبان”؟ إلاّ أنّ هذا السؤال لم يكن موجَّهًا إليّ.

والبروة هذه هي قرية الشاعر الذي قال بعد 15 سنة:

“أهنّئ الجلاّد منتصرًا على عين كحيلة

مرحى لفاتح قرية، مرحى لسفّاح الطفولة”.

فهل كان هو الولد؟ وهل ظلّ يمشي شرقًا بعد أن فكّ يده من قبضة أمّه وتركها في الظلّ؟

على هذا النحو يصف إميل حبيبي (الذي يُعتبر -على نحوٍ ما- الأبَ الروحيّ لمحمود درويش) إقلاعَ درويش، من اللجوء البائس إلى قمّة الشعر العربيّ، ويضع بين يدَيِ القارئ مَهمّة ملء الفجوات في كلّ ما يتّصل بطبيعة العلاقة بين عملاقَيِ الثقافة الفلسطينيّة، ولا سيّما عندما يَختتم هذا الفصلَ على النحو التالي:

فشاعر البروة، السالف الذكر، قال:

“نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفلٍ نبيّا…

ولم يدْرِ، إلاّ أخيرًا، بأنّ هذه الشياطين نفسها تجعل من طفل آخر نسيًا منسيًّا”.

(حبيب, المتشائل, ص 26-23)

وحبيبي، كعادته في توجيه سهام النقد اللاذع، لا “يبخل” بها على تلميذه، ومن يعاود قراءة هذا الفصل مرّات عدّة، ولا سيّما على خلفيّة علاقات الاثنين التي امتدّت لسنين طويلة، يستطيع تجاهل المفردتين “إلاّ أخيرًا”، وأن يقرأ ما بين السطور على خلفيّة سيرتهما الذاتيّة، معًا، وكلّ منهما على حدة، حتّى مماتهما: حبيبي في العام 1996، ودرويش بعده باثني عشر عامًا. بعد مُضيّ عقدين على نشر المتشائل – وكانت تلك أيّامًا حافلة بالآمال – سافر درويش إلى حيفا كي يلتقي بإميل حبيبي والمشاركة في شريط سينمائيّ أعدّته مخرجة إسرائيليّة. بعد ذلك بسنوات، تحدّث درويش عن هذا اللقاء في قصيدة “موعد مع إميل حبيبي”:

لا لأرثيه، بل لنجلس عشر دقائق في الكاميرا جئت

كان الشريط مُعَدًّا لمعركة بين ديكين.

قلت له قبل موعدنا: عمَّ تبحث؟

قال: عن الفرق بين “هنا” وهناك”

قلت: لعلّ المسافة كالْـ”واو “بين هنا وهناك، مجازيّة.

لكن لقاء الشاعر درويش مع الكاتب إميل حبيبي لم يتمّ:

أتيت، لكننّي لم أصل. فوصلت

لكنّني لم أعُد. لم أجد صاحبي في انتظاري،

ولم أَجِد المَقْعَدين المُعَدَّيْن، لي وله

ولمعركة بين ديكين.

كان كعادته، ساخرًا

كان يسخر منّا ومن نفسه

كان يحمل تابوته هاربًا من جنازته

قائلاً: سينما، كلّ شيء هنا سينما.

عندما وصف حبيبي الطفل الماشي مع أمّه شرقًا وصورته ما انفكّت تكبر حتّى ملأت الأفق، كان يعي جيّدًا أنّ الآمال التي علّقها على الشاعر الشابّ الذي تعرّف عليه في أواخر الخمسينيّات قد تحقّقت، وأنّ صورته العملاقة كشاعر ألْقَتْ بظلالها على الكثيرين من حوله، بمن فيهم حبيبي نفسه، لا سيّما في خريف عمر هذا الأخير عندما أَفلَ نجمه لدى أعضاء الحزب الذي قاده على امتداد عقود طويلة. اللقاء الذي كان يُفترض أن يقام في بداية أيّار عام 1996، بين الكاتبِ الكهل الذي كان مستلقيًا على فراش الموت، وتلميذِه الذي “ملأ الدنيا وشغل الناس”، لم يتحقّق، لكنّه أنجب القصيدة المذكورة أعلاه، والتي تدعونا أن نقرأ بين السطور حول سيرة علاقاتهما عبر السنين، وحول ثنايا روح درويش، تمامًا كما دعانا نصّ حبيبي أن نقرأ حول تقلّبات روحه.


  • ترجمة المقال من العبرية: جلال حسن

مصادر:

حبيبي، إميل. الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، حيفا: منشورات عربسك، 1974.

درويش, محمود. ‫ لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي, ‫ بيروت: رياض الريس، 2009.

رابط لقصيدة ” موعد مع إميل حبيبي” بإلقاء محمود درويش:  https://www.youtube.com/watch?v=NTbwVi8PQRk

البروفيسور رئوبين سنير هو محاضر في قسم اللغة والأدب العربي في جامعة حيفا.

روبن شنير

מִנְבַּר

في نهاية رواية المتشائل (1974)، في الفصل “كيف شارك سعيد في حرب الاستقلال لأوّل مرّة”، يحكي الراوي، وهو العميل العربيّ الإسرائيليّ الذي يتحدّث إميل حبيبي (1921-1996) من حنجرته، عن امرأة من قرية البروة تصادف في طريق عودتها إلى قريتها الحاكمَ العسكريّ الذي يقطع الطريق عليها ويصرخ عليها شاهرًا مسدّسه: “قومي اجري أمامي عائدة إلى أيّ مكان شرقًا، وإذا رأيتك مرّة ثانية على هذا الدرب فلن أوفّرك”. فتقبض المرأة على يد ابنها وتتوجّه شرقًا دون الالتفات وراءها، لكن في تلك اللحظة حصلت ظاهرة خارقة”:

فكلّما ابتعدت المرأة وولدها عن مكاننا، الحاكم على الأرض وأنا في الجِيب، ازدادا طولاً حتّى اختلطا بظلّيهما في الشمس الغاربة فصارا أطول من سهل عكّا. فظلّ الحاكم واقفًا ينتظر اختفاءهما، وظللت أنا قاعدًا أنكمش حتّى تساءل مذهولاً: “متى يغيبان”؟ إلاّ أنّ هذا السؤال لم يكن موجَّهًا إليّ.

والبروة هذه هي قرية الشاعر الذي قال بعد 15 سنة:

“أهنّئ الجلاّد منتصرًا على عين كحيلة

مرحى لفاتح قرية، مرحى لسفّاح الطفولة”.

فهل كان هو الولد؟ وهل ظلّ يمشي شرقًا بعد أن فكّ يده من قبضة أمّه وتركها في الظلّ؟

على هذا النحو يصف إميل حبيبي (الذي يُعتبر -على نحوٍ ما- الأبَ الروحيّ لمحمود درويش) إقلاعَ درويش، من اللجوء البائس إلى قمّة الشعر العربيّ، ويضع بين يدَيِ القارئ مَهمّة ملء الفجوات في كلّ ما يتّصل بطبيعة العلاقة بين عملاقَيِ الثقافة الفلسطينيّة، ولا سيّما عندما يَختتم هذا الفصلَ على النحو التالي:

فشاعر البروة، السالف الذكر، قال:

“نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفلٍ نبيّا…

ولم يدْرِ، إلاّ أخيرًا، بأنّ هذه الشياطين نفسها تجعل من طفل آخر نسيًا منسيًّا”.

(حبيب, المتشائل, ص 26-23)

وحبيبي، كعادته في توجيه سهام النقد اللاذع، لا “يبخل” بها على تلميذه، ومن يعاود قراءة هذا الفصل مرّات عدّة، ولا سيّما على خلفيّة علاقات الاثنين التي امتدّت لسنين طويلة، يستطيع تجاهل المفردتين “إلاّ أخيرًا”، وأن يقرأ ما بين السطور على خلفيّة سيرتهما الذاتيّة، معًا، وكلّ منهما على حدة، حتّى مماتهما: حبيبي في العام 1996، ودرويش بعده باثني عشر عامًا. بعد مُضيّ عقدين على نشر المتشائل – وكانت تلك أيّامًا حافلة بالآمال – سافر درويش إلى حيفا كي يلتقي بإميل حبيبي والمشاركة في شريط سينمائيّ أعدّته مخرجة إسرائيليّة. بعد ذلك بسنوات، تحدّث درويش عن هذا اللقاء في قصيدة “موعد مع إميل حبيبي”:

لا لأرثيه، بل لنجلس عشر دقائق في الكاميرا جئت

كان الشريط مُعَدًّا لمعركة بين ديكين.

قلت له قبل موعدنا: عمَّ تبحث؟

قال: عن الفرق بين “هنا” وهناك”

قلت: لعلّ المسافة كالْـ”واو “بين هنا وهناك، مجازيّة.

لكن لقاء الشاعر درويش مع الكاتب إميل حبيبي لم يتمّ:

أتيت، لكننّي لم أصل. فوصلت

لكنّني لم أعُد. لم أجد صاحبي في انتظاري،

ولم أَجِد المَقْعَدين المُعَدَّيْن، لي وله

ولمعركة بين ديكين.

كان كعادته، ساخرًا

كان يسخر منّا ومن نفسه

كان يحمل تابوته هاربًا من جنازته

قائلاً: سينما، كلّ شيء هنا سينما.

عندما وصف حبيبي الطفل الماشي مع أمّه شرقًا وصورته ما انفكّت تكبر حتّى ملأت الأفق، كان يعي جيّدًا أنّ الآمال التي علّقها على الشاعر الشابّ الذي تعرّف عليه في أواخر الخمسينيّات قد تحقّقت، وأنّ صورته العملاقة كشاعر ألْقَتْ بظلالها على الكثيرين من حوله، بمن فيهم حبيبي نفسه، لا سيّما في خريف عمر هذا الأخير عندما أَفلَ نجمه لدى أعضاء الحزب الذي قاده على امتداد عقود طويلة. اللقاء الذي كان يُفترض أن يقام في بداية أيّار عام 1996، بين الكاتبِ الكهل الذي كان مستلقيًا على فراش الموت، وتلميذِه الذي “ملأ الدنيا وشغل الناس”، لم يتحقّق، لكنّه أنجب القصيدة المذكورة أعلاه، والتي تدعونا أن نقرأ بين السطور حول سيرة علاقاتهما عبر السنين، وحول ثنايا روح درويش، تمامًا كما دعانا نصّ حبيبي أن نقرأ حول تقلّبات روحه.


  • ترجمة المقال من العبرية: جلال حسن

مصادر:

حبيبي، إميل. الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، حيفا: منشورات عربسك، 1974.

درويش, محمود. ‫ لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي, ‫ بيروت: رياض الريس، 2009.

رابط لقصيدة ” موعد مع إميل حبيبي” بإلقاء محمود درويش:  https://www.youtube.com/watch?v=NTbwVi8PQRk

البروفيسور رئوبين سنير هو محاضر في قسم اللغة والأدب العربي في جامعة حيفا.

Below are share buttons

גליונות אחרונים

לכל הגליונות