צילום: רויטרס
Below are share buttons

كيف ننتقل إلى شراكة سياسية في إسرائيل/ فلسطين؟

عدد 10,

تبين التجربة الكونية في مجال صنع السلام أن ترتيبات الديمقراطية للشراكة في الحكم قد أضحت أداة مركزية في تسوية النزاعات. وفي مقابل ديمقراطية الأغلبية العادية، تتسم ترتيبات الشراكة في الحكم بـائتلاف واسع، يلتزم بإشراك جميع الفئات السكانية المركزية؛ بـالتمثيل النسبي في مختلف مؤسسات الحكم؛ بـاستقلالية المجموعات، في المجالات المحددة ثقافياً في الغالب؛ وبـحقوق النقض لحماية المصالح الحيوية للفئات المشاركة. وبدلاً من سياسة الحسم بين الأغلبية والأقلية، ترتكز سياسة الشراكة في الحكم على الاحتواء والتسوية ما بين المجموعات. وغالباً ما يكون سبب تبني هذا النوع من التسويات براغماتياً، غير أن اختياره يستند أيضاً إلى اعتبارات العدالة: الدفع نحو المساواة في القوة عوضاً عن علاقات الفوقية، والاعتماد المتبادَل عوضاً عن الاستغلال أو سلب الملكية. في إسرائيل/ فلسطين بالإمكان تبني ترتيبات الشراكة في الحكم سواء في إطار دولة واحدة ثنائية القومية أو في إطار دولتين ضمن اتحاد فوق وطني. كلا النموذجين ممكنان من الناحية المبدئية، لكن يبدو أن الاتحاد فوق الوطني يبدو هو الترتيب المفضّل، ولو فقط في ضوء حقيقة أن الخيار الافتراضي وفق القانون الدولي هو أن تكون التسوية السياسية في البلاد مستندة إلى خيار الدولتين، وهي تسوية يتطلب الخروج عنها موافقة كلا الشعبين. 

بين الدولة الواحدة والدولتين، ما هي فرص تبني مثل هذا النموذج التشاركي، مهما كان جديراً ومرغوباً فيه، في واقعنا وأن يستمر فيه؟ كيف بالإمكان الانتقال إليه من النظام الحالي الذي تشكل فيه فوقية الجمهور اليهودي في جميع أنحاء البلاد واستمرار سلب الفلسطينيين ممتلكاتهم جزءاً من الركائز الأساسية للحكومات الإسرائيلية؟ على نحو غير مفاجئ، يجد برندان أوليري، الباحث المتخصص في ترتيبات الشراكة في الحكم، أن شروط الشراكة في الحكم لا تتوفر في فلسطين/ إسرائيل.1Brendan O’Leary, “Power-Sharing and Partition amid Israel-Palestine,” Ethnopolitics 15, 4 (2016), pp. 345–365 وهو يشير إلى التقلبات التاريخية التي أفضت إلى واقع أن ميزان القوى يميل لصالح إسرائيل بصورة حادة، وإلى أن السلطة في أيدي اليهود فقط، وإلى أن ممتلكات اليهود ومداخيلهم هي أكثر بكثير من ممتلكات الفلسطينيين ومداخيلهم. وثمة صعوبة أخرى هي أنه ليست لدينا شروط “داخلية” بإمكانها التجسير على انعدام المساواة ودعم بناء الشراكة السياسية، إذ أن لكلّ من الطرفين هوية قومية وثقافية منفصلة، خلافاً للهوية الألمانية المشتركة التي قادت إلى تشكيل الاتحاد بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية. كما نفتقر نحن إلى تاريخ من التعاون بين النُّخَب من الشعبين.  

صحيح أن الظروف الداعمة لتبني مسار السلام القائم على المساواة والشراكة غير متوفرة في البلاد حالياً، غير أن الاستنتاج المترتب عن ذلك هو ليس أنه ينبغي التخلي عن ذاك المسار، وإنما ينبغي العمل على تصحيح الوضع القائم بغية الدفع نحو السلام. ولكن، خلافاً لتهيئة الظروف اللازمة لتطبيق حل الدولتين الكلاسيكي، المستند إلى الفصل الديمغرافي، فإن تعزيز الشراكة السياسية المبنية على المساواة لا ينطوي على التسبب بظلم ومعاناة جديدين. من أجل الدفع بمثل هذه الشراكة، ثمة حاجة، تحديداً، إلى إجراء تغييرات وتعديلات إيجابية: تقليص الفجوات، رفع مستوى الرفاه الاقتصادي، الاجتماعي والاقتصادي لجميع سكان البلاد، وتعزيز التعاون السياسي، الثقافي والاقتصادي. لذا، هذه هي الأسئلة الحاسمة: كيف يمكن تخيُّل الانتقال من الواقع الراهن إلى واقع آخر تكون فيه الشراكة السياسية اليهودية ـ الفلسطينية ممكنة؟ وما هي الخطوط السياساتية التي يجدر تبنيها واعتمادها، السيرورات التي ينبغي إطلاقها، المشاريع التي ينبغي الاستثمار فيها ـ من أجل تهيئة الظروف لنموذج سياسي احتوائيّ؟

بودّي أن أشير إلى ثلاثة أنواع من السيرورات المرغوب فيها من حيث الجوهر وتبدو أنها ممكنة سياسياً: الأول هو تقليص الفجوات الاجتماعية ـ الاقتصادية بين اليهود والفلسطينيين في جميع مناطق إسرائيل/ فلسطين، وليس فقط داخل حدود الخط الأخضر والقدس الشرقية، كما حدث حتى الآن، وبضمن ذلك أيضاً التركيز على التطوير الاقتصادي وتوفير الخدمات والسلع العامة. وبما أننا موجودون في منطقة اقتصادية واحدة ـ “منطقة الشيكل” ـ فإن التحدي الأساسي يكمن في التغلب على المعيقات والحواجز المعرفية والبيروقراطية التي يضعها النظام الحالي القائم على الفصل ـ بين الخط الأخضر والقدس والضفة الغربية وغزة. 

الثاني هو مراكمة الخبرة في مجال التعاون المنصف بين الفلسطينيين والإسرائيليين من خلال إنشاء أطر مؤسساتية مناسبة. الشراكة في الحكم تتطلب القدرة على المناقشة واتخاذ القرارات معاً، ولذا فهي تعتمد على الألفة والثقة المتبادلة، على تطوير لغة وتفاهمات مشتركة، وعلى وجود أطر مؤسسية تدعم ذلك. سيرورات وتغييرات مؤسساتية من هذا القبيل قد بدأت بالفعل في نطاق المواطنة الإسرائيلية، على سبيل المثال: في منظمات المجتمع المدني وأطر العمل في قطاع الأعمال وحتى في القطاع العام. وهي تجري خلال السنوات الأخيرة في القدس أيضاً، كما توضح ميخال براير، من خلال سيرورات التخطيط التي تتشكل في حي العيساوية. من المهم أن نتعلم من الخبرة المكتسبة ثم استخدامها بما يتلاءم مع أهداف الإجراء الذي أدعو إليه ـ إجراء هو ليس “أسرلة” الفلسطينيين، وإنما إنشاء أطر للتعاون المنصف بين الإسرائيليين والفلسطينيين. المجالات المناسبة لذلك هي تلك التي توجد فيها بالفعل درجة من التعاون الإسرائيلي ـ الفلسطيني والتي ثمة فيها مصالح قوية للتعاون أو إمكانية تحقيق ربح كبير ـ مثل، المجال البيئي، مجالات الطاقة والمياه، مجال التقنية العالية (الهاي تك) ومجال الصحة. كذلك في مجالات هامة أخرى ـ التعليم العالي، السياحة، المواصلات، الزراعة والسياسة المحلية ـ يجدر فحص إمكانيات وطرق تحقيق التعاون المنصف والمفيد. 

السيرورة الثالثة هي ثقافية ـ هوياتية والهدف فيها مركّب من مكوِّنَين اثنين: تعزيز الاعتراف المتبادل وتنمية هوية ووعي مشتركين. المكوِّن الأول ـ الاعتراف المتبادل، وهو مفهوم يستند إلى مصطلح تكافؤ الاحترام/ التقدير parity of esteem الذي استُخدم ضمن عملية السلام في إيرلندا الشمالية، يعني احترام ثقافة الشعب الآخر وروحه الوطنية. الاحترام لا يوجِب قبول تصورات الآخر الوطنية كحقيقة. سيكون طرح هذا المطلب في الصراعات العرقية ـ القومية غير قابل للتطبيق، إذ ثمة احتمال كبير لأن تكون التصورات الوطنية لكل من الطرفين متعارضة تماماً. مطلب الاحترام المتبادل هو أكثر تواضعاً ومع ذلك، هو مطلب ثوري. الاحترام المتبادل يعني احترام روح الشعب الآخر الوطنية والثقافية واحترام حق الناس في التمسك بها وتعزيزها بطرق غير عنيفة. إنه المطلب ذاته تماماً الذي نطلبه لأنفسنا ونتوقع الحصول عليه من الشعب الآخر. حتى لو كانت ثمة حاجة إلى تغييرات في وجهات النظر والمعتقدات، فليست ثمة حاجة إلى التخلي عن التمايز القومي أو إلغائه لإتاحة المصالحة. فالسعي ينبغي أن يكون نحو إرساء منظومة علاقات يمكن للروحين الوطنيتين كليتهما أن تتعايشا فيها جنباً إلى جنب. في هذا المجال أيضاً، ثمة سيرورة قيد التشكل بين رياديين مجتمعيين (أنظروا لدى أسعد غانم وميرون رابابورت)، في الأدب (أنظروا لدى مي طال ندلر)، في الكتابة التاريخية (مناحيم كلاين، هليل كوهن، أفيـﭽايل يعقوبسون)،2مناحيم كلاين، مرتبطون: قصة أبناء البلاد، تل أبيب، هكيبوتس همؤوحاد، 2016؛ هليل كوهن، 1929: سنة الصدع في الصراع اليهودي ـ العربي، القدس: كيتر، 2013، المذكور سابقاً، كارهون، قصة حُب، تل أبيب: عِڤريت، 2022؛ Abigail Jacobson and Moshe Naor, Oriental Neighbours: Middle Eastern Jews and Arabs in Mandatory Palestine, Waltham, Mass.: Brandeis University Press, 2016. وفي مبادرات منظمات المجتمع المدني الرامية إلى معرفة سردية الآخر (منتدى العائلات الثكلى، “مقاتلون من أجل السلام”، “ذاكرات/ زوخروت”).

 المكوِّن الثاني في السيرورة الثقافية ـ الهوياتية هو تنمية هوية ووعي مشتركين وفوق قوميين، وهو المكوِّن الذي تتمحور حوله مقالة أمير فاخوري. ثمة اليوم اتفاق بين باحثي الأعراق والقوميات على أن الهوية القومية، وحتى تلك منها المتجذرة في الهوية الدينية ـ العِرقية، هي نتاج سيرورات اجتماعية ـ سياسية تحرّكها قيادات وحركات قومية. ولهذا، فإن من شأن الاستثمار الثقافي اللائق أن يساهم في تشكّل هوية جديدة ـ قديمة جامعة تضم جميع الأشخاص المنتمين إلى إطار البلاد المشتركة. السمات الهوياتية المشتركة التي جرى كبتها حتى الآن قد تشكل قاعدة لهوية ثقافية ـ سياسية جامعة كهذه. هنا، أيضاً، بالإمكان رؤية براعم مبادرات ثقافية تبحث عن المشترك بين الشعبين ـ في التاريخ، في الانتماء إلى الوطن وفي الجذور الدينية ـ ليس كما في السيرورات الثقافية التي أطلقتها ورعتها، حتى اليوم، الحركة الصهيونية والحركة الوطنية الفلسطينية، والتي كانت تسعى إلى كشف ما يفصل ويفرّق. نقطة الانطلاق نحو السلام الصهيوني ـ الفلسطيني الدائم والثابت تكمن في إدراك حقيقة أنه قد كُتب علينا العيش هنا معاً، الاعتراف بهذه الحقيقة والفهم بأن الخيار المتاح أمامنا هو ليس هل نعيش معاً أم لا، وإنما كيف نعيش معاً. صحيح أنه يتعين علينا تطوير التفاصيل بوعي وحساسية للظروف الفريدة الخاصة بنا، إلا أن المبادئ السياسية ليست فريدة لحالتنا العينية هذه. إنها تقوم على الإدراك بأن الحياة المشتركة ينبغي أن تتأسس على إطار سياسي من التعاون المنصف بين الشعبين، إطار ينبني على المساواة وعدم الهيمنة والتحكّم (non-domination). من أجل تحويل هذا الإدراك إلى واقع ثمة حاجة إلى سيرورات واسعة ومكثفة ترمي إلى تغيير الشروط المادية والمعرفية بغية ملاءمتها للإطار السياسي. وخلافاً لخلق وتهيئة الظروف المناسبة لحل الدولتين الكلاسيكي، القائم على الفصل، فإن تهيئة الظروف الداعمة لمسار الاتحاد الإسرائيلي ـ الفلسطيني ليس أنها لا تطرح مشكلة أخلاقية أو قانونية فحسب، وإنما هي مدعَّمة باعتبارات العدالة، حتى بقطع النظر عن أي نموذج سياسي محدد وبدون أية علاقة به. أي أن قوة أنموذج الشراكة والمساواة تكمن في أنه يطرح مساراً سياسياً ممكناً وجديراً وفي أن الطريق إلى تحقيقه مُستحسَنة ولائقة.  

  • 1
    Brendan O’Leary, “Power-Sharing and Partition amid Israel-Palestine,” Ethnopolitics 15, 4 (2016), pp. 345–365
  • 2
    مناحيم كلاين، مرتبطون: قصة أبناء البلاد، تل أبيب، هكيبوتس همؤوحاد، 2016؛ هليل كوهن، 1929: سنة الصدع في الصراع اليهودي ـ العربي، القدس: كيتر، 2013، المذكور سابقاً، كارهون، قصة حُب، تل أبيب: عِڤريت، 2022؛ Abigail Jacobson and Moshe Naor, Oriental Neighbours: Middle Eastern Jews and Arabs in Mandatory Palestine, Waltham, Mass.: Brandeis University Press, 2016
ليمور يهودا

מִנְבַּר

تبين التجربة الكونية في مجال صنع السلام أن ترتيبات الديمقراطية للشراكة في الحكم قد أضحت أداة مركزية في تسوية النزاعات. وفي مقابل ديمقراطية الأغلبية العادية، تتسم ترتيبات الشراكة في الحكم بـائتلاف واسع، يلتزم بإشراك جميع الفئات السكانية المركزية؛ بـالتمثيل النسبي في مختلف مؤسسات الحكم؛ بـاستقلالية المجموعات، في المجالات المحددة ثقافياً في الغالب؛ وبـحقوق النقض لحماية المصالح الحيوية للفئات المشاركة. وبدلاً من سياسة الحسم بين الأغلبية والأقلية، ترتكز سياسة الشراكة في الحكم على الاحتواء والتسوية ما بين المجموعات. وغالباً ما يكون سبب تبني هذا النوع من التسويات براغماتياً، غير أن اختياره يستند أيضاً إلى اعتبارات العدالة: الدفع نحو المساواة في القوة عوضاً عن علاقات الفوقية، والاعتماد المتبادَل عوضاً عن الاستغلال أو سلب الملكية. في إسرائيل/ فلسطين بالإمكان تبني ترتيبات الشراكة في الحكم سواء في إطار دولة واحدة ثنائية القومية أو في إطار دولتين ضمن اتحاد فوق وطني. كلا النموذجين ممكنان من الناحية المبدئية، لكن يبدو أن الاتحاد فوق الوطني يبدو هو الترتيب المفضّل، ولو فقط في ضوء حقيقة أن الخيار الافتراضي وفق القانون الدولي هو أن تكون التسوية السياسية في البلاد مستندة إلى خيار الدولتين، وهي تسوية يتطلب الخروج عنها موافقة كلا الشعبين. 

بين الدولة الواحدة والدولتين، ما هي فرص تبني مثل هذا النموذج التشاركي، مهما كان جديراً ومرغوباً فيه، في واقعنا وأن يستمر فيه؟ كيف بالإمكان الانتقال إليه من النظام الحالي الذي تشكل فيه فوقية الجمهور اليهودي في جميع أنحاء البلاد واستمرار سلب الفلسطينيين ممتلكاتهم جزءاً من الركائز الأساسية للحكومات الإسرائيلية؟ على نحو غير مفاجئ، يجد برندان أوليري، الباحث المتخصص في ترتيبات الشراكة في الحكم، أن شروط الشراكة في الحكم لا تتوفر في فلسطين/ إسرائيل.1Brendan O’Leary, “Power-Sharing and Partition amid Israel-Palestine,” Ethnopolitics 15, 4 (2016), pp. 345–365 وهو يشير إلى التقلبات التاريخية التي أفضت إلى واقع أن ميزان القوى يميل لصالح إسرائيل بصورة حادة، وإلى أن السلطة في أيدي اليهود فقط، وإلى أن ممتلكات اليهود ومداخيلهم هي أكثر بكثير من ممتلكات الفلسطينيين ومداخيلهم. وثمة صعوبة أخرى هي أنه ليست لدينا شروط “داخلية” بإمكانها التجسير على انعدام المساواة ودعم بناء الشراكة السياسية، إذ أن لكلّ من الطرفين هوية قومية وثقافية منفصلة، خلافاً للهوية الألمانية المشتركة التي قادت إلى تشكيل الاتحاد بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية. كما نفتقر نحن إلى تاريخ من التعاون بين النُّخَب من الشعبين.  

صحيح أن الظروف الداعمة لتبني مسار السلام القائم على المساواة والشراكة غير متوفرة في البلاد حالياً، غير أن الاستنتاج المترتب عن ذلك هو ليس أنه ينبغي التخلي عن ذاك المسار، وإنما ينبغي العمل على تصحيح الوضع القائم بغية الدفع نحو السلام. ولكن، خلافاً لتهيئة الظروف اللازمة لتطبيق حل الدولتين الكلاسيكي، المستند إلى الفصل الديمغرافي، فإن تعزيز الشراكة السياسية المبنية على المساواة لا ينطوي على التسبب بظلم ومعاناة جديدين. من أجل الدفع بمثل هذه الشراكة، ثمة حاجة، تحديداً، إلى إجراء تغييرات وتعديلات إيجابية: تقليص الفجوات، رفع مستوى الرفاه الاقتصادي، الاجتماعي والاقتصادي لجميع سكان البلاد، وتعزيز التعاون السياسي، الثقافي والاقتصادي. لذا، هذه هي الأسئلة الحاسمة: كيف يمكن تخيُّل الانتقال من الواقع الراهن إلى واقع آخر تكون فيه الشراكة السياسية اليهودية ـ الفلسطينية ممكنة؟ وما هي الخطوط السياساتية التي يجدر تبنيها واعتمادها، السيرورات التي ينبغي إطلاقها، المشاريع التي ينبغي الاستثمار فيها ـ من أجل تهيئة الظروف لنموذج سياسي احتوائيّ؟

بودّي أن أشير إلى ثلاثة أنواع من السيرورات المرغوب فيها من حيث الجوهر وتبدو أنها ممكنة سياسياً: الأول هو تقليص الفجوات الاجتماعية ـ الاقتصادية بين اليهود والفلسطينيين في جميع مناطق إسرائيل/ فلسطين، وليس فقط داخل حدود الخط الأخضر والقدس الشرقية، كما حدث حتى الآن، وبضمن ذلك أيضاً التركيز على التطوير الاقتصادي وتوفير الخدمات والسلع العامة. وبما أننا موجودون في منطقة اقتصادية واحدة ـ “منطقة الشيكل” ـ فإن التحدي الأساسي يكمن في التغلب على المعيقات والحواجز المعرفية والبيروقراطية التي يضعها النظام الحالي القائم على الفصل ـ بين الخط الأخضر والقدس والضفة الغربية وغزة. 

الثاني هو مراكمة الخبرة في مجال التعاون المنصف بين الفلسطينيين والإسرائيليين من خلال إنشاء أطر مؤسساتية مناسبة. الشراكة في الحكم تتطلب القدرة على المناقشة واتخاذ القرارات معاً، ولذا فهي تعتمد على الألفة والثقة المتبادلة، على تطوير لغة وتفاهمات مشتركة، وعلى وجود أطر مؤسسية تدعم ذلك. سيرورات وتغييرات مؤسساتية من هذا القبيل قد بدأت بالفعل في نطاق المواطنة الإسرائيلية، على سبيل المثال: في منظمات المجتمع المدني وأطر العمل في قطاع الأعمال وحتى في القطاع العام. وهي تجري خلال السنوات الأخيرة في القدس أيضاً، كما توضح ميخال براير، من خلال سيرورات التخطيط التي تتشكل في حي العيساوية. من المهم أن نتعلم من الخبرة المكتسبة ثم استخدامها بما يتلاءم مع أهداف الإجراء الذي أدعو إليه ـ إجراء هو ليس “أسرلة” الفلسطينيين، وإنما إنشاء أطر للتعاون المنصف بين الإسرائيليين والفلسطينيين. المجالات المناسبة لذلك هي تلك التي توجد فيها بالفعل درجة من التعاون الإسرائيلي ـ الفلسطيني والتي ثمة فيها مصالح قوية للتعاون أو إمكانية تحقيق ربح كبير ـ مثل، المجال البيئي، مجالات الطاقة والمياه، مجال التقنية العالية (الهاي تك) ومجال الصحة. كذلك في مجالات هامة أخرى ـ التعليم العالي، السياحة، المواصلات، الزراعة والسياسة المحلية ـ يجدر فحص إمكانيات وطرق تحقيق التعاون المنصف والمفيد. 

السيرورة الثالثة هي ثقافية ـ هوياتية والهدف فيها مركّب من مكوِّنَين اثنين: تعزيز الاعتراف المتبادل وتنمية هوية ووعي مشتركين. المكوِّن الأول ـ الاعتراف المتبادل، وهو مفهوم يستند إلى مصطلح تكافؤ الاحترام/ التقدير parity of esteem الذي استُخدم ضمن عملية السلام في إيرلندا الشمالية، يعني احترام ثقافة الشعب الآخر وروحه الوطنية. الاحترام لا يوجِب قبول تصورات الآخر الوطنية كحقيقة. سيكون طرح هذا المطلب في الصراعات العرقية ـ القومية غير قابل للتطبيق، إذ ثمة احتمال كبير لأن تكون التصورات الوطنية لكل من الطرفين متعارضة تماماً. مطلب الاحترام المتبادل هو أكثر تواضعاً ومع ذلك، هو مطلب ثوري. الاحترام المتبادل يعني احترام روح الشعب الآخر الوطنية والثقافية واحترام حق الناس في التمسك بها وتعزيزها بطرق غير عنيفة. إنه المطلب ذاته تماماً الذي نطلبه لأنفسنا ونتوقع الحصول عليه من الشعب الآخر. حتى لو كانت ثمة حاجة إلى تغييرات في وجهات النظر والمعتقدات، فليست ثمة حاجة إلى التخلي عن التمايز القومي أو إلغائه لإتاحة المصالحة. فالسعي ينبغي أن يكون نحو إرساء منظومة علاقات يمكن للروحين الوطنيتين كليتهما أن تتعايشا فيها جنباً إلى جنب. في هذا المجال أيضاً، ثمة سيرورة قيد التشكل بين رياديين مجتمعيين (أنظروا لدى أسعد غانم وميرون رابابورت)، في الأدب (أنظروا لدى مي طال ندلر)، في الكتابة التاريخية (مناحيم كلاين، هليل كوهن، أفيـﭽايل يعقوبسون)،2مناحيم كلاين، مرتبطون: قصة أبناء البلاد، تل أبيب، هكيبوتس همؤوحاد، 2016؛ هليل كوهن، 1929: سنة الصدع في الصراع اليهودي ـ العربي، القدس: كيتر، 2013، المذكور سابقاً، كارهون، قصة حُب، تل أبيب: عِڤريت، 2022؛ Abigail Jacobson and Moshe Naor, Oriental Neighbours: Middle Eastern Jews and Arabs in Mandatory Palestine, Waltham, Mass.: Brandeis University Press, 2016. وفي مبادرات منظمات المجتمع المدني الرامية إلى معرفة سردية الآخر (منتدى العائلات الثكلى، “مقاتلون من أجل السلام”، “ذاكرات/ زوخروت”).

 المكوِّن الثاني في السيرورة الثقافية ـ الهوياتية هو تنمية هوية ووعي مشتركين وفوق قوميين، وهو المكوِّن الذي تتمحور حوله مقالة أمير فاخوري. ثمة اليوم اتفاق بين باحثي الأعراق والقوميات على أن الهوية القومية، وحتى تلك منها المتجذرة في الهوية الدينية ـ العِرقية، هي نتاج سيرورات اجتماعية ـ سياسية تحرّكها قيادات وحركات قومية. ولهذا، فإن من شأن الاستثمار الثقافي اللائق أن يساهم في تشكّل هوية جديدة ـ قديمة جامعة تضم جميع الأشخاص المنتمين إلى إطار البلاد المشتركة. السمات الهوياتية المشتركة التي جرى كبتها حتى الآن قد تشكل قاعدة لهوية ثقافية ـ سياسية جامعة كهذه. هنا، أيضاً، بالإمكان رؤية براعم مبادرات ثقافية تبحث عن المشترك بين الشعبين ـ في التاريخ، في الانتماء إلى الوطن وفي الجذور الدينية ـ ليس كما في السيرورات الثقافية التي أطلقتها ورعتها، حتى اليوم، الحركة الصهيونية والحركة الوطنية الفلسطينية، والتي كانت تسعى إلى كشف ما يفصل ويفرّق. نقطة الانطلاق نحو السلام الصهيوني ـ الفلسطيني الدائم والثابت تكمن في إدراك حقيقة أنه قد كُتب علينا العيش هنا معاً، الاعتراف بهذه الحقيقة والفهم بأن الخيار المتاح أمامنا هو ليس هل نعيش معاً أم لا، وإنما كيف نعيش معاً. صحيح أنه يتعين علينا تطوير التفاصيل بوعي وحساسية للظروف الفريدة الخاصة بنا، إلا أن المبادئ السياسية ليست فريدة لحالتنا العينية هذه. إنها تقوم على الإدراك بأن الحياة المشتركة ينبغي أن تتأسس على إطار سياسي من التعاون المنصف بين الشعبين، إطار ينبني على المساواة وعدم الهيمنة والتحكّم (non-domination). من أجل تحويل هذا الإدراك إلى واقع ثمة حاجة إلى سيرورات واسعة ومكثفة ترمي إلى تغيير الشروط المادية والمعرفية بغية ملاءمتها للإطار السياسي. وخلافاً لخلق وتهيئة الظروف المناسبة لحل الدولتين الكلاسيكي، القائم على الفصل، فإن تهيئة الظروف الداعمة لمسار الاتحاد الإسرائيلي ـ الفلسطيني ليس أنها لا تطرح مشكلة أخلاقية أو قانونية فحسب، وإنما هي مدعَّمة باعتبارات العدالة، حتى بقطع النظر عن أي نموذج سياسي محدد وبدون أية علاقة به. أي أن قوة أنموذج الشراكة والمساواة تكمن في أنه يطرح مساراً سياسياً ممكناً وجديراً وفي أن الطريق إلى تحقيقه مُستحسَنة ولائقة.  

  • 1
    Brendan O’Leary, “Power-Sharing and Partition amid Israel-Palestine,” Ethnopolitics 15, 4 (2016), pp. 345–365
  • 2
    مناحيم كلاين، مرتبطون: قصة أبناء البلاد، تل أبيب، هكيبوتس همؤوحاد، 2016؛ هليل كوهن، 1929: سنة الصدع في الصراع اليهودي ـ العربي، القدس: كيتر، 2013، المذكور سابقاً، كارهون، قصة حُب، تل أبيب: عِڤريت، 2022؛ Abigail Jacobson and Moshe Naor, Oriental Neighbours: Middle Eastern Jews and Arabs in Mandatory Palestine, Waltham, Mass.: Brandeis University Press, 2016
Below are share buttons

גליונות אחרונים

לכל הגליונות